الحديث عن الديمقراطية هو, غالبا, حديث عن الأغلبية. هذا حق,ولكنه ليس كل الحقيقة. فمن حق الأغلبية أن تحكم,ولكنها لا تستطيع, باسم الأغلبية, أن تلغي أو تقيد حقوق وحريات الأقلية. فهناك حقوق وحريات أساسية للأفراد لا يمكن, ولا يجوز, الإعتداء عليها ولو باسم الأغلبية, مهما بلغت هذه الاغلبية. وعندما نتحدث عن الحقوق والحريات الأساسية للأفراد, فإننا نتحدث عن مفهوم إنساني متطور بحسب العصر. فما يعتبر من الحقوق والحريات الأساسية للفرد والتي لا يجوز الاعتداء عليها, ولو باسم الأغلبية, يختلف من عصر إلي آخر. ولعل أبرز مثال علي ذلك هو الرق. فالرق قد عرف في معظم إن لم يكن جميع المجتمعات القديمة, وقد كان نظاما مقبولا ومسموحا به. وحتي الأديان السماوية من يهودية ثم مسيحية وأخيرا إسلامية, فإنها لم تعارضه, وإن طالبت بحسن معاملة الرقيق. وقد توسع الإسلام في الدعوة إلي إعتاق الرقيق كلما كان ذلك متاحا وشجع عليه. ومنذ منتصف القرن التاسع عشر, قامت دعوة عالمية لتحرير العبيد, وعقدت معاهدات لهذا الغرض, وعرفت الولاياتالمتحدة حربا أهلية بسبب الإنقسام حول هذه القضية. وهكذا أصبحت حرية الفرد وتحرره من أشكال العبودية, أحد حقوق الإنسان والتي لا يجوز المساس بها. ولم يقتصر التوسع في حقوق الإنسان علي تحريره من العبودية بل توسع ليشمل حرية العقيدة وحرية الرأي وحرية الاجتماع والمساواة بين الرجل والمرأة إلي آخر قائمة الحريات الأساسية, والتي ينبغي أن يتمتع بها كل فرد طالما لا يؤذي غيره. وهي حقوق أساسية تعلو علي أية أغلبية مهما بلغت نسبتها. وقد أكدت المواثيق الدولية هذه الحقوق والحريات, وأصبحت جزءا من النظام القانوني الدولي. وقد انضمت مصر إلي معظم هذه المواثيق. وهكذا تطور مفهوم الديمقراطية ولم يعد مقصورا علي مجرد حكم الأغلبية, بل أصبح أيضا نظام احترام حقوق وحريات الأفراد. وكان قد تنبه إلي هذا التطور المفكر الفرنسي بنجامين كونستانت حيث أصدر كتابا في بداية القرن التاسع عشر(1819) بعنوان الحريات القديمة والحديثة. فالحرية بالمعني الحديث هي الاعتراف للفرد بمجال خاص يتمتع فيه بالاستقلال ولا يخضع فيه لغير القانون, في حين أن الحرية بالمعني القديم تشير إلي المشاركة في الحكم وإصدار القوانين واتخاذ السياسات بالأغلبية. وقد رأي أنه وفقا للمفهوم الحديث للحريات فإن الأغلبية لا يجوز لها باسم الديمقراطية أن تعتدي علي الحقوق الأساسية للأفراد. وقد بدأ هذا الفكر السياسي منذ جون لوك في نهاية القرن السابع عشر, والذي وضع أسس مفهوم الديمقراطية الليبرالية. ولم تتوقف الدعوة للحرية عند هذه الحدود, إذ إتسع مفهوم هذه الحرية ذاته مراعاة للظروف الاقتصادية والاجتماعية وذلك بتمكين الأفراد من ممارسة حقوقهم وذلك بضمان فرص العمل وتوفير خدمات تعليمية وصحية مناسبة وحماية البيئة. وهكذا. فإلي جانب التزام الدولة باحترام مجال خاص ومستقل للأفراد يتمتعون فيه بالحرية وحرمة حياتهم الخاصة, هناك التزام من الدولة للتدخل بتمكين الأفراد من التمتع بهذه الحقوق وذلك بضمان مستوي كاف من التعليم والرعاية الصحية وفرص العمل. وهكذا اتضح أن مفهوم الحرية والديمقراطية يجاوز بكثير المفهوم الضيق لحكم الأغلبية. فالأغلبية التي تهدر حقوق الأفراد والأقليات هي أخطر مظاهر الاستبداد وأكثرها وحشية. وبالمثل فإنه ما لم تتوافر الظروف الاقتصادية والاجتماعية اللازمة لتمكين الأفراد من استغلال طاقاتهم البدنية والنفسية والعقلية, فلا يمكن الإدعاء بأن الحرية قد تحققت. وبالإضافة إلي لزوم تقييد حقوق الأغلبية بضرورة احترام الحريات الأساسية للأفراد, وتمكينهم من استغلال طاقاتهم البشرية بتوفير الخدمات الأساسية في الأمن والعدل وفرص العمل وفرص التعليم والرعاية الصحية, فإن هناك قيدا أخيرا لا يقل أهمية وخطورة, وهو ما يتعلق بالكفاءة وضرورة احترام التخصصات الفنية والمهنية في أداء الأعمال. فالحديث عن رأي الأغلبية لا يصلح إلا في المسائل العامة التي تخضع للمنطق السليمCommonSense والقضايا العامة. ولكن لا يمكن إدارة الأمور المتخصصة التي تتطلب مهارة فنية وتدريبا علميا بمنطق الأغلبية والأقلية. فهذه الأمور تتطلب دراية فنية وعادة تدريبا علميا وعمليا طويلا. وهي أمور لا يعرفها إلا أهل المهنة أو الصنعة. فلا يمكن أن نترك أمور إدارة مستشفي للمرضي أنفسهم وهم الأغلبية بمقولة أنهم الأغلبية, وبالمثل لا يمكن أن نترك إدارة الفصول الدراسية والقيام بالتدريس للطلبة والتلاميذ لمجرد أنهم الأغلبية. وبطبيعة الأحوال, فإن إصرار ركاب الطائرة علي القيادة لأنهم بحكم العدد بالمقارنة بطاقم قيادة الطائرة يمثلون الأغلبية, فإن هذا سيكون حكما بسقوط الطائرة. ولذلك فهناك ضرورة للتنبه بعدم إخضاع القضايا الفنية لغير المتخصصين فذلك هو أول الطريق إلي الفشل. وهو فشل يتم كثيرا باسم الغوغائية متسترة بشعار الأغلبية, وأحيانا باسم أهل الثقة. ففي العصر الحديث, وحيث تعقدت ظروف الحياة أصبح التعليم والخبرة المهنية والكفاءة الفنية أحد أهم أسباب التقدم. والديمقراطية, وهي تسعي للعمل علي إشباع حاجات ومطالبات الجماهير, فإنها لا تعني الاستغناء عن الكفاءات والمهارات. الديمقراطية تعني وضع مطالب الجماهير في مقدمة الأولويات, ولكنها لا تعني تغليب الكم علي الكيف, بل تسعي لتحقيق العدالة في الفرص مع مكافأة وتفضيل المتميز والقادر علي الجاهل والكسلان. فحكم الأغلبية يعني أن يدار المجتمع لمصلحتهم ولكن بواسطة الأكثر كفاءة وعلما. فالأغلبية العددية ليست بديلا عن الكفاءة. فحكم الأغلبية ليس عدوا للكفاءة أوالتخصص. وهكذا يتضح أن الحديث عن حكم الأغلبية يعني توجيه سياسات المجتمع لمصالح هذه الأغلبية مع مراعاة احترام الحقوق والحريات الأساسية للأفراد من ناحية, وتمكين المواطنين من التمتع بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية من ناحية ثانية, وضمان كفاءة القائمين علي نشاط الدولة مهنيا وأخلاقيا من ناحية ثالثة. الوطن ملك للجميع وليس حكرا علي اغلبية أو أقلية, وعلي الجميع مسئولية حمايته والعمل علي تقدمه. وهكذا فحكم الأغلبية هو بالدرجة الأولي مسئولية وليس امتيازا. وهي مسئولية مقيدة بتحقيق آمال وتطلعات الغالبية مع الاحترام الكامل لحقوق وحريات الأفراد والأقليات, وعدم التضحية بالكفاءة والخبرات الفنية والمهنية المتراكمة. فالنخبة ليست في عداء مع الأغلبية بل هي أداتها لتحقيق مجتمع الحرية والمساواة, مع الكفاءة الفاعلية. فالنخبة هي آداة التطوير والتقدم, ولكن هذه النخبة توظف خبراتها وكفاءاتها لمصلحة الغالبية. ومجتمع بلا نخبة هو غالبا مجتمع راكد قليل الخيال وقصير النظر. ولكن نخبة تعمل لصالحها وتهمل مصالح وتطلعات الأغلبية, هي وبال علي نفسها وعلي المجتمع في نفس الوقت. حكم الغالبية هو حكم الغالبية المسئولة التي تحترم الحقوق والحريات وتعتمد علي الكفاءة والخبرة وليس علي الثقة والطاعة. وقد دفعنا ثمنا باهظا لأيام غلب عليها أهل الثقة علي أهل الخبرة. والله أعلم. هل هي نهاية الحوار؟ بعد كتابة المقال المتقدم أرسل صديق لي صورة من صفحة ما يطلق عليه( صفحة كتيبة أنصار الشريعة) علي موقع التواصل الاجتماعي: استهداف66 شخصية سياسية وإعلامية في حالة ما سمته سقوط الدولة. وتتضمن هذه القائمة السوداء اسم شخصي الضعيف. فلا حول ولا قوة إلا بالله. www.hazembeblawi.com المزيد من مقالات د.حازم الببلاوي