أثارت أحكام المحكمة الدستورية العليا بإبطال الجمعية التأسيسية ثم انتخاب مجلس الشعب عددا من ردود الفعل المتناقضة من مختلف الاتجاهات السياسية. وذهب البعض إلي اقتراح الاتجاء إلي الاستفتاء الشعبي لإعادة النظر في اختصاصات المحكمة الدستورية, كما اقترح البعض الآخر أن يكون للبرلمان وهو منتخب من الشعب رفض حكم المحكمة الدستورية بأغلبية خاصة( الثلثين مثلا). فطالما أن الشعب هو مصدر السلطات, فإنه يستطيع أن يقيد من اختصاصات المحكمة الدستورية العليا أو يلغي أو يعدل من هذه الاختصاصات. كذلك ذهبت بعض الآراء إلي تحصين القوانين بالحصول علي الموافقة علي دستوريتها مسبقا قبل إصدارها وبما يضمن عدم تعريضها للإلغاء بعد ذلك تحت بند عدم الدستورية. ونعتقد أن الأمرين يتعارضان مع مفهوم الديمقراطية الحديث, والتي تقوم علي احترام الحقوق والحريات الأساسية للأفراد في مواجهة ما أطلق عليه خلال القرن العشرين من أسماء أخري مثل الديمقراطية الشعبية, أو الديمقراطية الجماهيرية أو غير ذلك من الاصطلاحات والتي انتهت عملا بإهدار الحقوق والحريات وتكريس أنواع من الاستبداد والدكتاتورية باسم العمال والاشتراكية حينا أو باسم الفاشية والنازية حينا آخر. الحديث عن الديمقراطية لا يخلو كثيرا من مغالطات, أو علي الأقل من تعارض في المفاهيم الأساسية لها. فالديمقراطية هي حقا حكم الشعب بواسطة الشعب ومن أجل الشعب. ونظرا لأن تحقيق الإجماع علي كل الأمور مستحيل, فإن هذا الشعار يتحول إلي حكم الأغلبية. فهل معني ذلك أن الأغلبية تستطيع باسم الديمقراطية أن تفعل كل شيء؟. يبدو أن هذا المفهوم قد ساد قديما في المدن اليونانية, حيث يحق لأبناء أثينا من الأحرار المولودين فيها من مواطنين أحرار التمتع بالمواطنة وبالتالي المشاركة السياسية. وكان من حقهم, من خلال الأغلبية, أن يقرروا ما يريدون بلا معقب علي أحكامهم. ولكن هذه الديمقراطية اليونانية لم تمنع من أن عدد العبيد بها الذين لا يحق لهم التصويت كانوا عشرة أضعاف عدد المواطنين الأحرار, فضلا عن حرمان المرأة وبطبيعة الأحوال الأجانب, من المشاركة السياسية. ولم يكن غريبا والحال كذلك أن يحاكم فليسوف بحجم سقراط ويحكم عليه بالإعدام لآرائه في ظل هذه الديمقراطية. فحكم الأغلبية ودون احترام للحقوق والحريات الأساسية للأفراد قد ينتهي باستبداد الأغلبية, وقد تكون هذه الأغلبية عرقية أو دينية أو مذهبية. وغالبا ما يكون استبداد الأغلبية هو أسوأ وأخطر أنواع الاستبداد. وإذا كان مفهوم الديمقراطية قد بدأ تاريخيا علي أساس حكم الشعب من خلال الأغلبية, فإن الأمر لم يتوقف عند ذلك. فمنذ القرن السابع عشر باتت الدعوة للديمقراطية تأخذ منحي جديدا لا يتوقف عند الحديث علي الأغلبية, بل يقوم علي مفهموم الحقوق والحريات الأساسية للأفراد التي لا يجوز التعرض لها أو التعريض بها. فأساس وجود الدولة هو حماية هذه الحقوق والحريات الأساسية. وقد ظهر هذا التوجه بوجه خاص في إنجلترا منذ القرن السابع عشر لما أهلها لتصبح مهد الديمقراطية الحديثة. ورغم أن المشهور هو أن توماس هوبز قد دافع عن السلطة المطلقة وبالتالي الملكية المطلقة فإنه من وجهة نظر معينة كان من أوائل من أرسوا مباديء المذهب الفردي والحقوق الأساسية للفرد. فالغرض من الجماعة عنده وأساس وجودها هو حماية حقوق الأفراد من حالة الوحشية والبربرية التي يتعرض فيها كل فرد للاعتداء من جانب الآخرين, وذلك قبل ظهور مفهوم الدولة الحديثة. ومع ذلك يظل جون لوك هو المؤسس الحقيقي للديمقراطية الحديثة في دفاعه عن الملكية الدستورية. وقد بدأت تظهر عند لوك بشكل واضح فكرة الحقوق الطبيعية للأفراد التي يستمدونها من القانون الطبيعي السابق علي وجود المجتمعات وظهور القوانين الوضعية. ويفرض القانون الطبيعي نفسه علي الجميع, فمنه يستمد الأفراد مباشرة حقوقهم وحرياتهم من ناحية, فضلا عن أنه يقيد المشرع نفسه بقوة دستورية لا يستطيع مجاوزتها من ناحية أخري. وهكذا تطور مفهوم الديمقراطية من مفهوم إجرائي يقوم علي التصويت والانتخاب والأغلبيات, إلي مفهوم موضوعي يقوم علي احترام الحقوق والحريات الأساسية للأفراد والمجتمع. وأشار الكاتب الفرنسي بنجامين كونستانت في كتابه عن الحريات القديمة والحديثة إلي التفرقة بين المعني القديم للحرية والمعني الحديث لها. فعلي حين أن الحرية بالمعني القديم السائد في المدن اليونانية يشير إلي الحق في المشاركة في اتخاذ القرارات السياسية( بالأغلبية), فإن الحرية بالمفهوم الحديث تعني الاعتراف للفرد بمجال خاص يتمتع فيه باستقلال ولا يخضع فيه لغير القانون, وأنه في هذا المجال يتمتع بحقوق وحريات أساسية يستمدها من القانون الطبيعي ومباديء العدالة ولا يجوز المساس بها. فالديمقراطية في هذا المفهوم جاءت لحماية حقوق الأفراد وحرياتهم الأساسية, وما الانتخابات والأغلبية سوي وسيلة لتحقيق أهداف هذه الديمقراطية. ومع تطور المجتمعات واستقرار مفهوم العدالة الاجتماعية وضرورة تمكين المواطن من ممارسة حقوقه أصبح من واجبات الدولة تمكين هذا المواطن من ممارسة هذه الحقوق والحريات. وليس معني ما تقدم أن هذه المفاهيم تتعارض مع بعضها بقدر ما هي تتكامل في برنامج ديمقراطي متكامل. ولذلك يري العديد من المفكرين التفرقة بين ثلاثة مفاهيم متكاملة لمعني الحرية. فهناك المفهوم الجمهوري, وهناك المفهوم الليبرالي أو الدستوري, وهناك أخيرا المفهوم الاجتماعي أو التمكيني. فأما المفهوم الجمهوري, فهو يشير إلي مساهمة الأفراد في الحياة السياسية باختبار الحكام عن طريق الأغلبية ومساءلتهم والمشاركة في اتخاذ القرارات السياسية الهامة. وأما المفهوم الدستوري فالمقصود به الاعتراف للفرد بمجال خاص لا يمكن التعرض له بالتدخل فيه, وأن له حقوقا وحريات أساسية لا يمكن المساس بها. ويدخل في هذه الحقوق حق الفرد في الحياة وحرمة حياته الخاصة وحرية العقيدة وحرية التعبير عن الرأي وحرية الاجتماع والانتقال كما يتضمن إحترام حقوق الملكية الخاصة والتعاقدات. وتباشر هذه الحقوق دون اعتداء مادامت لا تتعارض مع حقوق الآخرين. وأخيرا يأتي المفهوم الإجتماعي للحرية والذي يتعلق بتمكين الفرد من ممارسة حقوقه وذلك بتوفير الشروط والأوضاع المناسبة لضمان دخل مناسب له ورعاية تعليمية وصحية كافية وأوضاع بيئية مقبولة. وتنطوي الديمقراطية المعاصرة علي كل هذه المفاهيم المتاكملة, وهي تدعم بعضها البعض. وبطبيعة الأحوال, فإن أي مفهوم منها يتجه إلي الاتساع والتطور مع مزيد من الازدهار والنمو, فنحن بصدد اتجاهات تتزايد باستمرار مع مزيد من التقدم الديمقراطي. وبعد هذه المقدمة الطويلة عن مفاهيم الحرية والديمقراطية, فهل يمكن أن نستخدم الاستفتاء أو إصدار قانون لتجاوز أحكام المحكمة الدستورية العليا؟ الإجابة: هي قطعا لا. والسؤال هو في جوهره, هو هل تستطيع الأغلبية بقرار منها عن طريق الاستفتاء أو غيره أن تهدد أو تتعرض بالمساس للحقوق والحريات الأساسية للأفراد أو لبعضهم؟ الإجابة السريعة: هي لا. فالحقوق والحريات الأساسية للأفراد تثبت لهم نتيجة لطبيعتهم البشرية, فهي سابقة علي الدساتير والقوانين, بل إن فكرة الدستور والقانون جاءت لحماية هذه الحقوق والحريات. فدستورية القوانين بهذا المعني هي أساس شرعية هذه القوانين, وبدونها فإن القوانين التي تتعارض مع الحقوق والحريات ولو صدرت عن طريق الأغلبية تصبح أداة للاستبداد, ولا يمكن للقاضي أن يطبقها. والمقصود بمخالفة القانون لأحكام الدستور ليس فقط مخالفة ما جاء من نصوص في الدستور المكتوب, بل أيضا في المباديء الإنسانية المستقرة في احترام الحقوق والحريات الأساسية للأفراد. وهذه المباديء العامة والمستقرة في الضمير الإنساني لا تحتاج إلي نصوص خاصة والقاضي ملزم بتطبيقها, لأن القانون الذي يخالف هذه الحقوق والحريات هو قانون باطل صدر ممن لا يملك إصداره. وقد استقر القضاء الإداري في مصر وقبل إنشاء أي محاكم دستورية علي الامتناع عن تطبيق أي قانون يتعارض مع المباديء الدستورية العامة, وذلك رغم عدم وجود نصوص آنذاك في الدستور أو القانون تعطيه هذا الحق صراحة. الاستفتاء الشعبي هو أحد مظاهر الحرية بالمفهوم الجمهوري للمشاركة في الحياة السياسية. ولكن الاستفتاء لا يملك ولو بأغلبية كبيرة الاعتداء علي الحقوق والحريات الأساسية. وتستطيع المحكمة الدستورية العليا أن تنظر في دستورية هذا الاستفتاء إذا تقدم مواطن بالطعن فيه. الرقابة علي دستورية القوانين هي أحد أهم مظاهر ضمان الحقوق والحريات. وهي تعلو علي الجميع. والله اعلم. المزيد من مقالات د.حازم الببلاوي