قوانين التأميم والإصلاح الزراعى صنعت «أقباط المهجر».. والمسيحيون غابوا فى عهده عن المناصب العليا.. وإلغاء «الأوقاف القبطية» أغضبهم كانت الكنيسة في أضعف مراحلها، حينما قامت ثورة 23 يوليو 1952، واعتلى الكرسي البابوي في هذا الوقت البابا يوساب الثاني، الذى كان ضعيف الشخصية ويتصرف فى أمور الكنيسة سكرتيره الشخصى وخادمه «ملك» الذى كان فاسداً ويبيع الرتب الكهنوتية، وتسبب هذا الوضع فى ظهور ما يعرف بجماعة الأمة القبطية، التى اختطفت البابا من المقر البابوى قبل أن تحرره الحكومة وتعيده لكرسيه مرة أخرى، وتسجن أفراد تلك الجماعة، قبل أن يجتمع المجمع المقدس للكنيسة عام 1954 ليقرر عزل البابا وتعيين لجنة بابوية لإدارة شئون الكنيسة. جاء ذلك فى وقت كانت تموج فيه الدولة المصرية بالثورة والعديد من التغييرات التى صاحبتها، إلا أن الكنيسة لم تصطدم بالثورة فقد قامت حركة الضباط الأحرار عقب الثورة مباشرة بزيارات لمقار الإيبارشيات بالمحافظات لبث خطاب الطمأنة وإثبات حسن النوايا تجاه الأقباط، ووقف البابا «يوساب» بجوار الرئيس محمد نجيب فى العيد الأول للثورة، ومنح بتلك المناسبة مجلس قيادة الثورة الأقباط خمسة أيام إجازة خاصة بأعيادهم سنوياً هى: «عيد الميلاد، والقيامة، والغطاس، وأحد الشعانين، وخميس العهد، والسماح لهم بالتأخير ساعتين كل يوم أحد حتى العاشرة صباحاً لحضور القداس». بنى كاتدرائية العباسية وسدد عجز ميزانية البطريركية.. وعلاقته مع «كيرلس» تحولت لصداقة شخصية إلا أن الأمر لم يدُم طويلاً إذا أصدرت الثورة قراراً بإلغاء الأوقاف القبطية، الأمر الذى أغضب الكنيسة، وجاء عام 1955 ليصدر الرئيس جمال عبدالناصر قراراً بإلغاء المحاكم الملّية التى كان الأقباط يحتكمون إليها داخل الكنائس لحل أحوالهم الشخصية، وتختص بالفصل فى قضاياهم، واحتجت الكنيسة على ذلك بل إنها تحمّل إلى اليوم الدولة مسئولية تفاقم أزمة «الطلاق والزواج الثانى» للأقباط بسبب هذا القرار حتى اليوم. وكما لم يتعدّ نصيب الأقباط فى حركة الضباط الأحرار سوى قبطى واحد، ضم الوزارات التى تعاقب على الدولة منذ الثورة وحتى نهاية عهد عبدالناصر وعددها 18 وزارة سوى وزير قبطى واحد عدا وزارة صدقى سليمان عام 1966 لم تضم أى قبطى، وكانت حقائب التموين والمواصلات هى المخصصة للأقباط. ولم يتوقف الضرر السياسى للأقباط من الثورة على ذلك بل امتد ليصلهم ضرر إلغاء الأحزاب السياسية فى مصر، وخاصة حزب الوفد الذى كان يعد منبرهم للعمل السياسى، وكان من نتيجة ذلك أنه فى انتخابات عام 1957 لم يفز قبطى واحد فى دخول البرلمان، فلجأ «عبدالناصر» إلى أسلوب الدوائر المغلقة، حيث تم اختيار عشرة دوائر بدقة وقصرها على مرشحين أقباط، غير أن هذا الأسلوب لم ينجح، ولذلك ابتكر النظام فكرة التعيين، حيث سمح الدستور لرئيس الدولة بتعيين عشرة نواب، روعى أن يكونوا كلهم أو معظمهم من الأقباط، وبنظرة عامة على وضع التمثيل القبطى فى برلمانات الثورة يتضح أنه لم ينجح بالانتخاب منذ 1952 وحتى 1962 سوى نائب قبطى واحد، وهو فريد فايق فريد فى برلمان 1955، وقد اعتقل عام 1958 فى حملة الثورة على الشيوعيين. أما برلمان 1964 فقد انتُخب له نائب واحد وتم تعيين ثمانية، وفى برلمان 1969م تم انتخاب نائبين وتعيين سبعة. وجاء قرار جمال عبدالناصر بتأميم قناة السويس عام 1956، ليحظى بتأييد الأقباط ودعمهم للدولة فى مواجهة الغرب وحرب 1956، قبل أن تمتد عملية التأميم لتشمل الأقباط وشركاتهم، بعد أن طالت الغالبية العظمى من رجال الأعمال الأقباط قرارات الثورة بمحاربة الإقطاع والإصلاح الزراعى، وتسببت تلك القرارات فى خسائر اقتصادية باهظة للأقباط قُدرت حسب مصادر قبطية فى ذلك الوقت بنسبة تتراوح ما بين 70% و75% فى قطاع النقل، إذ طال التأميم شركات «إخوان مقار والأسيوطى، وأبورجيلة، وحكيم مرجان»، و44% فى مجال الصناعة حيث أممت «مصانع فؤاد جرجس، وعطية شنودة، وتاجر، وتكلا»، و51% فى مجال البنوك، و34% من الأراضى الزراعية، حيث تم نزع ملكية آلاف الأفدنة من عائلات قبطية، مثل عائلات «دوس، وأندراوس، وويصا، وخياط» الشهيرة فى ذلك الوقت. وكانت نتيجة السياسة السابقة أن هاجر ملاك الأراضى ورجال الصناعة من الأقباط إلى دول المهجر، أى الولاياتالمتحدةالأمريكيةوكندا وأستراليا وأوروبا، ليكونوا النواة لما يعرف حالياً ب«أقباط المهجر»، الذين تزايَد عددهم فى فترة الستينات وهى الفترة التى خرجت فيها الكنيسة القبطية الأرثوذكسية من المحلية إلى فتح كنائس لها فى الخارج، وكانت البداية بالكويت ثم كندا، وتوالى فتح الكنائس القبطية فى الخارج، لتنتشر فى أكثر من 60 دولة حول العالم، بينما يوجد الأقباط حسب إحصائيات الكنيسة فى أكثر من 100 دولة حول العالم حالياً. وحينما وصل البابا كيرلس السادس إلى السدة المرقسية خلفاً للبابا يوساب عام 1959، اختلفت الأوضاع بين الكنيسة والدولة، فسعى البابا الجديد وقتها لفتح قنوات اتصال مع رئاسة الجمهورية، أثمرت فى هذا الوقت صدور القانون رقم 264 لسنة 1960 الخاص بإنشاء هيئة الأوقاف القبطية، وتم رد بعض الأوقاف التى تم تأميمها للكنيسة للإنفاق منها. وتحولت تلك العلاقة بين الكنيسة والدولة إلى علاقة شخصية بين البابا كيرلس والرئيس جمال عبدالناصر، حتى تنقل بعض المصادر الكنسية عن تلك الفترة بأنه كان باب الرئيس مفتوحاً دائماً للبابا كيرلس يأتى إليه وقتما يشاء، ووصفت تلك الفترة بأنها العصر الذهبى للأقباط الذى لا يضاهيه أى عهد سوى العهد الحالى بين البابا تواضروس الثانى والرئيس «السيسى». يقول الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، فى كتابه «خريف الغضب»، عن علاقة عبدالناصر والبابا كيرلس: «كانت العلاقات بين جمال عبدالناصر وكيرلس السادس علاقات ممتازة، وكان بينهما إعجاب متبادل، وكان معروفاً أن البطريرك يستطيع مقابلة عبدالناصر فى أى وقت يشاء». ومن أبرز ما قدمته الدولة فى تلك الفترة للكنيسة والأقباط، هى بناء الكاتدرائية المرقسية بالعباسية التى تحتفل الكنيسة هذا العام 2018 بمرور 50 عاماً على إنشائها، والتى يقول عن قصة إنشائها الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل: إنه تلقى دعوة شخصية من البابا كيرلس للقائه، فتوجه إليه وبصحبته الأنبا صموئيل أسقف الخدمات العامة والاجتماعية وقتها، وفى هذا اللقاء فاتح البابا هيكل فى موضوع بناء كاتدرائية العباسية وأن الكنيسة ليس لديها الاعتمادات المالية للقيام بهذا المشروع، وأبدى له حرجه من مفاتحة الرئيس فى الأمر مباشرة حتى لا تكون فيه إثارة أية حساسيات، وعندما فاتح هيكل الرئيس فى الأمر أبدى تفهماً كاملاً، وقرر أن تسهم الدولة بنصف مليون جنيه فى بناء الكاتدرائية الجديدة، نصفها يدفع نقداً ونصفها الآخر يدفع عيناً بواسطة شركات المقاولات التابعة للقطاع العام، والتى يمكن أن يعهد إليها بعملية البناء، وتم وضع حجر الأساس للكاتدرائية فى عام 1965 قبل أن يتم افتتاحها فى عام 1968 فى حفل كبير حضره إمبراطور إثيوبيا هيلا سلاسى، إلا أن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية أشارت إلى أن حجم التبرع الذى قدمته الدولة لبناء كاتدرائية مارمرقس بالعباسية بلغ 150 ألف جنيه فقط، وليس كما قال هيكل. ويروى محمود فوزى فى كتابه «البابا كيرلس السادس وعبدالناصر» أن البابا كيرلس السادس زار الرئيس ذات يوم فى منزله، فجاء إليه أولاده، وكل منهم معه حصالته، ثم وقفوا أمامه، وقال له الرئيس: «أنا علمت أولادى وفهمتهم إن اللى يتبرع لكنيسة زى اللى يتبرع لجامع، والأولاد لما عرفوا إنك بتبنى كاتدرائية صمموا على المساهمة فيها، وقالوا حنحوّش قرشين، ولما ييجى البابا كيرلس حنقدمهم له، وأرجو ألا تكسفهم وخذ منهم تبرعاتهم»، فأخرج البابا كيرلس منديله ووضعه على حجره ووضع أولاد عبدالناصر تبرعاتهم، ثم لفها وشكرهم وباركهم. ومما يدل على قوة العلاقة بين الكنيسة والدولة فى هذا الوقت، قال البابا شنودة الثالث، فى حوار مع مجلة «الوسط» اللندنية، نشر فى 5 ديسمبر 1994، متحدثاً عن الوضع المالى فى عهد البابا كيرلس: «أيام البابا كيرلس السادس، كان حال البطريركية المالى منهاراً، لدرجة أن الرئيس جمال عبدالناصر تبرع عام 1967 بمبلغ 30 ألف جنيه لسداد العجز فى مرتبات الموظفين، وزاد انهيار الحالة المالية حين صدر قانون برفع الأجور، ولم يكن لدينا ما نسدد به هذه الزيادة، وبذلنا جهوداً جبارة لإصلاح الوضع المالى وتجاوزنا هذا الوضع حالياً، فتم سداد الديون، وأصبحت هناك إيرادات موجودة فى البنوك». ويؤكد ذلك الراهب رفائيل أفامينا، سكرتير البابا كيرلس فى ذلك الوقت، فى كتاب «مذكراتى» عن حياة البابا كيرلس، مشيراً إلى أن البابا كيرلس عرض على الرئيس جمال عبدالناصر عام 1967 مشكلة المجلس الملّى بعد أن فشل فى أداء عمله وأدى إلى وجود عجز فى ميزانية البطريركية، وتوقفت البطريركية عن دفع مرتبات العاملين الموظفين فيها، واستمرت لعدة شهور، ما دفع الرئيس لإصدار قرار جمهورى بإنشاء مجلس إدارة أوقاف البطريركية، وحل المجلس الملى وتجميد نشاطه، وتبرع للبطريركية بمبلغ 10 آلاف جنيه لسداد العجز فى الميزانية. وعمدت الكنيسة بعد نكسة 1967 على دعم الدولة ومؤازرة القوات المسلحة فى حربها لاستعادة الأرض، وكان للبابا كيرلس دور بحكم انتشار الكنيسة القبطية فى أفريقيا فى مقاطعة 40 دولة أفريقية لإسرائيل، وقرر منع الأقباط من زيارة القدس. ورغم أن عهد عبدالناصر خلا من الفتن الطائفية والاعتداءات على الكنائس كما حدث قبله وبعده، إلا أنه يعد بحسب الأقباط من وضع بذرة الطائفية فى مصر التى نمت فى عهد الرئيس الراحل أنور السادات. وعندما توفى عبدالناصر، أصدر البابا كيرلس بياناً جاء فيه: «إن الحزن الذى يخيم ثقيلاً على أمتنا كلها، لانتقال الرئيس المحبوب والبطل المظفر جمال عبدالناصر، إلى عالم البقاء والخلود، أعظم من أن يعبر عنه أو ينطق به.. ونحن لا نستطيع أن نصدق أن هذا الرجل الذى تجسدت فيه آمال المصريين يمكن أن يموت، إن جمال لم يمت ولن يموت، إنه صنع فى نحو عشرين سنة من تاريخنا ما لم يصنعه أحد من قبله فى قرون، وسيظل تاريخ مصر وتاريخ الأمة العربية إلى عشرات الأجيال مرتبطاً باسم البطل المناضل الشجاع، الذى أجبر الأعداء قبل الأصدقاء على أن يحترموه ويهابوه، ويشهدوا أنه الزعيم الذى لا يملك أن ينكر عليه عظمته وحكمته».