أثناء فترة احتلال سيناء تفرغ الإسرائيليون إلى اغتنام الفرصة فى البحث عن ثروات سيناء الطبيعية من البترول والغاز والخامات التعدينية، بهدف استثمار تلك الثروات واكتناز عوائدها، بينما تفرّغ الباحثون بمعهد الصحراء، التابع لجامعة «بن جوريون»، إلى نشاط آخر أكثر عائداً وثراء من البترول والغاز، وهو ما يُعرف ب«التنقيب عن الجينات النباتية Gene mining»!! والتنقيب فيه يتم داخل الخلية النباتية لمجموعة من النباتات البرية المتوطنة بسيناء بحثاً عن الجينات الحاملة للصفات الوراثية التى هيأت لهذه النباتات البرية البقاء حية لقرون رغم تعرُّضها لتحديات البيئة من ندرة المياه والجفاف وملوحة التربة وشدة حرارة الجو.. إلى آخر ذلك من ظروف معاكسة قاسية، وهو ما أثار طموح العلماء إلى بحث إمكانية نقل تلك الصفات الوراثية الموجودة بالنباتات البرية إلى محاصيل اقتصادية تتضاءل فرص التوسع فى زراعتها لسد الفجوة الغذائية، كالقمح والفول والذرة، وغيرها، نتيجة افتقادها تلك الصفات الوراثية الكامنة فى النباتات البرية بسيناء والصحارى الأخرى. وهو ما توصّل إليه علماء الوراثة والتكنولوجيا الحيوية حين أصبح متاحاً بالفعل نقل الصفة أو الصفات من كائن حى إلى آخر بوسائل متعددة تحت مسمى واحد وهو «البيوتكنولوجى» الذى تحوّل من المعامل إلى الأسواق التجارية من خلال تطبيقاته ومنتجاته التى تحقق عائداً اقتصادياً يفوق كل مجالات الاستثمار الأخرى إلى حد تنافس الشركات العملاقة الكبرى فى استثماراته باعتباره المنقذ والحل لتحديات هذا القرن من تغيرات مناخية وزيادة سكانية وفجوة غذائية وتناقص الموارد الطبيعية... إلى آخره من التحديات البيئية لهذا القرن. التكنولوجيا الحيوية قسمت العالم إلى فريقين: فريق يطلق عليه «الأغنياء الفقراء»، وهو الغنى الحائز للثروة النباتية الطبيعية لكنه لا يملك تكنولوجيا استثمارها فى إنتاج عقاقير طبية ومساحيق تجميل وبذور ذات قدرات خاصة... إلى آخره من منتجات مشتقة من النباتات البرية، ومصر تصنَّف ضمن هذا الفريق. أما الفريق الآخر فهم الفقراء فى الثروة النباتية الطبيعية، ولكنهم أغنياء فى تكنولوجيا استثمارها، وينتمى لفريق «الفقراء الأغنياء» الدول المتقدمة كأمريكا واليابان والصين وألمانيا، وغيرها من الدول المتقدمة فى التكنولوجيا الحيوية، ومنها إسرائيل وجنوب أفريقيا. والتساؤل: ما هى المزايا النسبية التى ترشح سيناء لأن تكون أكبر مركز للتكنولوجيا الحيوية فى الشرق الأوسط وتنقل مصر إلى الفريق الثالث «الأغنياء الأغنياء»؛ الأغنياء فى ثروة الجينات والأغنياء فى تكنولوجيا استثمارها. أوجز الإجابة بأن سيناء عامرة بنصف كنوز الثروة النباتية الطبيعية فى مصر من أنواع نباتية ترجع أهميتها إلى أنها تمثل ثلاث مناطق جغرافية نباتية أساسية، وهى الصحارى السندية، الإيرانية التورانية والبحر المتوسط. يبلغ عدد النباتات المسجلة لشبه الجزيرة 1274 نوعاً تنتسب إلى 94 فصيلة، منها 46 نوعاً مستوطناً (Endemic)، و346 نوعاً غير مستوطنة، ولكن نموَّها فى مصر يقتصر على سيناء (Confined)، بالإضافة إلى 855 نوعاً تنمو فى سيناء والمناطق الجغرافية النباتية المصرية الأخرى. وللأسف تعرّضت تلك الثروة للسلب والنهب خلال فترة الاحتلال لإسرائيلى، والمؤسف أيضاً أن شركات الإنتاج العالمية العملاقة تسلب الفقراء ثرواتهم بطرق غير مشروعة وتنكر حقوقهم فى الملكية الفكرية لها رغم الأرباح التجارية الطائلة التى تحققها من استثمار الثروة النباتية للفقراء، كما كان عليه الحال أثناء احتلال سيناء!! نهبوا ثروتنا النباتية واحتفظوا ببذورها فى بنوك الجينات لديهم دون مقابل، فى عملية يطلق عليها «قرصنة بيولوجية»!! ورغم تلك الثروة النباتية لم يكن لدينا فى سيناء بنك متخصص لحفظها حتى عام 1996، حينما تقدمت للدكتور يوسف والى، وزير الزراعة الأسبق، بمقترح إنشاء بنك للجينات النباتية بالشيخ زويد التى تبعد 10 كيلومترات عن حدودنا الدولية مع فلسطين، فبادر بالموافقة، متسائلاً عن مصدر المال لتمويل الإنشاء وبالأخص بعد اعتذار اليابان وأمريكا وألمانيا عن طلب الحكومة المصرية تمويل إنشاء بنك قومى للجينات النباتية لحفظ الموارد الوراثية النباتية ولسان حالهم يقول: «ليس مطلوباً منا حفظ ثروات شعوب أخرى، وهم الأجدر بتلك المهمة»!! وهى الحقيقة التى توصلت إليها، وعاهدت نفسى على تدبير التمويل من موازنة مركز بحوث الصحراء، فالحلم كان حافزاً قوياً لمواجهة تحديات التمويل!! بدأت أول خطوة لتحقيق الحلم بالاطلاع على بعض بنوك الجينات العالمية بالسفر إلى ألمانيا وإيطاليا وهولندا، ثم «فورت كولنز» بولاية كولورادو بأمريكا لاكتساب الخبرة الفنية حتى يأتى مشروعنا مواكباً لأرقى تكنولوجيات العالم.. وهو ما أصبح واقعاً بعد عامين من الإنشاء والتشغيل حين اختار المعهد الدولى للمصادر الوراثية النباتية (IPGRI)، ومقره روما، بنك الصحارى المصرية للجينات النباتية بالشيخ زويد ليكون مركز الخبرة الإقليمى لمنطقة الشرق الأوسط نظراً لما يتمتع به من تجهيزات ونظم خبيرة متميزة. وتم بناؤه ذاتياً بأموال مصرية. ولكن شاء القدر أن يتعرّض البنك، فى 2011 أثناء فوضى الثورة، لعملية تخريب بواسطة مجموعة من التكفيريين الإرهابيين الملثمين، وحطموا أجهزة المعامل، وألقوا بها من النوافذ، والأخطر هو سرقتهم «الهارد ديسك» الحافظ للمعلومات الخاصة بالبصمة الوراثية والتحاليل المعملية لأكثر من ألف نوع من النباتات البرية النادرة التى تم جمعها وحفظها خلال خمس سنوات ماضية، وهو ما أثار الشكوك حول هوية المحرضين والمنفذين للهجوم على بنك الجينات بالشيخ زويد!! شاءت المصادفة أيضاً بعد سنوات من إنشاء بنك الشيخ زويد أن تجمعنى بأحد كبار العلماء الإسرائيليين المرموقين فى مجال التكنولوجيا الحيوية، أثناء زيارتى لبنك الجينات الأمريكى، وفوجئت بأن لديه معلومات كاملة عن بنكنا بقدر يفوق ما لدى كثير من المؤسسات العلمية فى مصر عنه!! وبادرنى العالم الإسرائيلى بالسؤال عن نباتات محددة ومناطق وجودها فى سيناء، واكتشفت أن لديهم برامج قائمة قبل الانسحاب من سيناء لاستثمار نباتاتنا البرية ويريدون استكمالها فى إطار برنامج مع بنك الشيخ زويد، وهو ما أعاد طلبه منى وزير الزراعة الإسرائيلى عام 2009 أثناء ندوة بمقر الأممالمتحدة بنيويورك عندما اتجه خصيصاً لمصافحتى رغم عدم سابق معرفتى به، وفوجئت بإلمامه بمستوى بنك الشيخ زويد وإمكانياته وأنه مبرره لبرنامج مشترك لاستثمار ثروتنا بسيناء والبناء على ما توصلوا إليه!! ومن هنا فإننى أتمنى، ضمن طموح الرئيس السيسى لتحديث وتنمية سيناء، أن يتم إنشاء مجمع متكامل لاستثمار ثروتنا النباتية فى سيناء بالتكنولوجيا الحيوية، وليكن مقره بئر العبد، وليكن بالمشاركة مع إحدى الشركات الأمريكية أو الصينية التى أؤكد أنها سترحب بتمويل استثمارات ضخمة مقابل رأسمالنا من الموارد الوراثية النباتية المتاحة فى سيناء.