أصيب الشعب المصرى بالصدمة عند مشاهدة أفلام وصور مجزرة كرداسة.. وبقدر ما أثار تعذيب الضحايا والتمثيل بجثثها من ألم لدى المواطن المصرى، فإن ما أثار فجيعتنا جميعاً هو ذلك التحمس والتشجيع الذى أبداه بعض الصبية والشباب لمنفذى هذه العملية البشعة إلى حد التهليل «الله أكبر» أثناء تنفيذ الجريمة. ما الذى حدث للإنسان المصرى؟! كيف انهارت علاقته بالدولة ومؤسساتها إلى حد الترحيب والسعادة بهدمها؟! لماذا انعدمت المشاعر الإنسانية، وضاع إحساس المواطنة، وتبدد الشعور بالولاء؟ ثم لماذا كرداسة بالذات يتكرر فيها نفس سيناريو الأحداث العنيفة والخروج على الدولة بهذا القدر من العنف فى يناير 2011 ثم فى أغسطس 2013، ما السبب فى أن معظم المشاركين فى اعتصام النهضة كانوا من أهالى محافظة الجيزة؟! كما مثلوا ما لايقل عن 20% من معتصمى رابعة العدوية، ولماذا يمثلون الأغلبية ضمن المشاركين فى مسيرات الفوضى وحريق الوطن التى بدأت بالقاهرة منذ فض الاعتصامات؟! أسئلة هامة حاولت البحث عن إجابات لها.. ■ ■ ■ هو مستطيل يقع بمحافظة الجيزة، ملاصق للقاهرة ويضم عدداً كبيراً من المدن أهمها: كرداسة، ناهيا، طناش، أوسيم، القيراطيين، برطس، الجلاتمة، المناشى، أم دينار، ذات الكوم، كفرحجازى، نكلا، وردان، جزاية، برقاش، أبوغالب.. كما يضم مئات من القرى والعزب التابعة والمجاورة لها التى تتميز بكثافة سكانية مرتفعة، حالة من الفقر المدقع.. ضعف فرص الاستثمار ومن ثم انتشار واسع للبطالة، ارتفاع كبير فى نسبة الأمية نتيجة للتسرب من التعليم للمساعدة على أعباء الحياة.. وحدات سكنية عشوائية، نسبة كبيرة منها مبنية بطريقة بدائية غير صحية وغير آمنة.. مياه الشرب النقية لم تصل بعد لبعض القرى الصغيرة والعديد من العزب كثيفة السكان الذين يعتمدون على الطلمبات الحبشية، كما أن العديد منها لم يدخله الصرف الصحى حتى الآن، والغريب أن العديد من المساكن تقوم بالصرف فى الترع والمساقى التى يتم رى الزراعات بمياهها.. مصرف الرهاوى الذى يتجمع فيه الصرف الصحى غير المعالج لمحافظة الجيزة يخترق المنطقة ليصب فى نهاية رحلته بنهر النيل.. كافة الرشاحات المنتشرة بالمنطقة يتم استخدامها كمقالب للزبالة.. كما أن العديد من سيارات نزح طرنشات الصرف الصحى للبيوت الكبيرة تلقى حمولتها فى الترع والمساقى.. تدهور حاد فى الحالة الصحية نتيجة انتشار الأمراض المزمنة (التهاب الكبد الوبائى - الكلى - السرطان..).. ورغم ذلك لا تتوافر للأهالى خدمات صحية حيث إن أقرب مستشفى يقع إما بالجيزة أو بالقناطر الخيرية، مستشفى المناشى لم يدخل الخدمة بعد، رغم الانتهاء من بنائه منذ عدة سنوات.. نادراً ما يلجأ الناس للقضاء فى تسوية خلافاتهم حيث القضاء العرفى هو السائد، فالكلمة العليا فى هذه المناطق لبعض المشايخ، وكذا لمن يحملون السلاح.. حتى رغيف الخبز الذى تنتجه المخابز هناك يدخل أيضاً ضمن ما يوجع القلوب.. ويثير الأحزان. ■ ■ ■ وفى ظل ذلك المناخ البائس، نلاحظ وجوداً مكثفاً لكل صور النشاط من قبل «جماعة أنصار السنة المحمدية» و«الجمعية الشرعية».. تكاد لا تخلو قرية ولا عزبة من فرع لهاتين الجمعيتين أو مسجد تابع لهما أو معهد تعليمى أو مدرسة أو مشروع.. بخلاف الأنشطة الاجتماعية ومساعدة الفقراء والمحتاجين.. مقار هذه الجمعيات منذ السبعينات -وحتى الآن- يعتبر ميداناً خصباً لنشاط جماعة «الجهاد» المتطرفة التى تسيطر بشكل كامل على الحياة الاجتماعية للمواطنين، بما فيها القضاء العرفى، حتى إن الشاهد الوحيد فى تاريخ قضايا الإرهاب بمصر، والذى شهد تورط أعضاء الجماعة فى محاولة اغتيال الدكتور عاطف صدقى رئيس الوزراء السابق عام 1993، تم اغتياله بمحل عمله فى المناشى قبل ساعات من موعد شهادته، هو وطاقم الحراسة المشددة الذى كلفته الشرطة بتأمينه على مدى ال24 ساعة، ولم يدل أحد بأى شهادة على ما حدث رغم وقوع الجريمة أمام العشرات من أهالى المنطقة. هذه الحالة المتدنية والبائسة من العيش لسكان المنطقة، خاصة المرضى والعجائز واليتامى والمعسرين ومن أصابتهم نكبات أو ابتلاهم الله بحالة وفاة.. كانت ميدان عمل لاثنتين من الجمعيات الأهلية.. الأولى «الجمعية الشرعية» والثانية «جمعية أنصار السنة المحمدية».. الاثنتان جمعيتان للدعوة الدينية «السنية السلفية» وتمارس أنشطة اجتماعية ضخمة تغطيها من خلال ما تحصل عليه من دعم من بعض الجمعيات الخيرية بالدول العربية: (السعودية - قطر - الكويت - الإمارات - البحرين..)، وكما قلنا تكاد لا تخلو مدينة أو قرية أو عزبة بالجيزة من فرع لهاتين الجمعيتين، أو مسجد تابع لأى منهما، أو معهد تعليمى أو لإعداد الدعاة، مدرسة، حضانة، مشروع، مركز تحفيظ قرآن، مركز تقوية طلاب، مستوصف، دور مسنين، ملجأ أيتام، مساعدات لإغاثة المنكوبين والمساعدة فى دفن الفقراء.. إلخ. تحرص هذه الجمعيات على تجنب الاندماج فى أنشطة الأحزاب السياسية اكتفاءً بدورها الدعوى، إلا أن العام الأخير قد شكل ضغوطاً على هذه الجمعيات نظراً لحملات الشحن والتعبئة الإعلامية التى قام بها الإخوان خلال فترة حكمهم وبعد سقوطهم، قد رسخت فى أذهان قطاع واسع من البسطاء أتباع الجمعيتين «إن سقوط مرسى يعنى سقوط الإسلام» وبالتالى كان من الطبيعى أن يتحمس قطاع واسع منهم للمشاركة فى كافة الفعاليات المؤيدة لمرسى والمطالبة بعودته، من تظاهرات إلى اعتصامات، ومارسوا ضغوطاً هائلة على رئيسى الجمعيتين، وقد نجح الشيخ عبدالله الجنيد رئيس جمعية أنصار السنة المحمدية فى عبورها بسلام دون تورط فى اتخاذ أى مواقف سياسية معلنة التزاماً بتوجه الجمعية، أما الشيخ محمد حسين يعقوب، رئيس الجمعية الشرعية، فقد تعرض لهجوم علنى حاد من جانب الإخوان وصل إلى حد أن وصفه صفوت حجازى من فوق منصة رابعة العدوية بأنه «سقط ولم تعد له طاعة على مريديه، لأنه فضل الاحتجاب فى منزله بحجة اعتزال الفتنة»، ورغم كل هذه الضغوط، فإن الشيخ حسين يعقوب اكتفى بمرافقة الشيخ محمد حسان فى زيارة بدت «بروتوكولية» إلى منصة مصطفى محمود يوم 14/8 مؤكداً فى كلمته المقتضبة أنه «جاء لنصرة الشريعة الإسلامية» مما دعا قطاعاً واسعاً من أنصار مرسى للهتاف ضده والمطالبة بطرده. خطورة دور تنظيم الجهاد فى المنطقة كانت قوة وشعبية جمعية أنصار السنة المحمدية والجمعية الشرعية ونفوذهما على المواطنين داخل مستطيل الفقر بمحافظة الجيزة، مصدر اهتمام تنظيم «الجهاد».. وهو جماعة سلفية جهادية تؤمن بالعنف كوسيلة لإقامة شرع الله فى الأرض (نفذت عملية الفنية العسكرية عام 1974- اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات عام 1981 - محاولتى اغتيال حسن الألفى وزير الداخلية وعاطف صدقى رئيس الوزراء عام 1993..)، وبعد فشلها فى تحقيق اختراق واسع للجيش والمؤسسات السيادية على نحو يمكنها من السيطرة على الحكم أصبحت أكثر ميلاً لاستخدام تكتيك حرب العصابات ضد الدولة لتحقيق أهدافها، وعلى الرغم من الخلافات العقائدية العميقة بينها وبين «الجمعية الشرعية» و«جمعية أنصار السنة المحمدية»، فإنها كانت حريصة على التسلل سراً داخلهما، والاندماج فى أنشطتهما، حتى تتمكن من التأثير على توجهات بعض الأعضاء العقائدية لاستقطابهم وتجنيدهم كعناصر حركية تابعة لها، وهو ما نجحت فيه إلى حد كبير، وهو ما يمكن أن نلمسه بكل وضوح فى ظهور النزعة بالغة التطرف لدى الصبية والشباب فى كرداسة. ■ ■ ■ تلك هى أحوال البشر وظروفهم المعيشية والمؤثرات التى يخضعون لها فى مستطيل الفقر والتطرف بمحافظة الجيزة، والملاصق مباشرة للعاصمة، وهى أحوال ينبغى التدخل فوراً للتعامل معها وعلاجها وفق محددات ودون عشوائية، وفى هذا المجال هناك بعض الاعتبارات التى ينبغى مراعاتها: 1- أنه لا ينبغى التعامل مع هذه القضية من منظور أمنى بحت.. السواد الأعظم من أهالى هذا المستطيل أناس طيبون، بائسون، يهرولون خلف من يشعر بحرمانهم طمعاً فى دعمه.. أما من ورطته حاجته إلى حد الانتماء إلى تنظيمات أو المشاركة فى عمليات إرهابية، فليتم معاملته أمنياً وفقاً لما اقترف من جرم، وعلى النقيض، فإن من خرج فى تظاهرة أو شارك فى اعتصام طمعاً فى بدل نقدى أو وجبة غذائية أو حرصاً على استمرار حصوله على الدعم من أى جهة مانحة، فلا ينبغى أن نعطى لذلك التصرف أهمية تتجاوز حجمها الحقيقى. 2- أن حالة الاستنفار لدى قطاع واسع من الأهالى فى مواجهة الدولة -والتى قد تصل فى بعض الحالات إلى حد الكراهية- هى ليست فقط نتاجاً لشعورهم بالإهمال، بل أيضاً لتحملهم بعض تجاوزات وزارة الداخلية.. استعادة روح الانتماء يتطلب حدوث تغيير جذرى فى أسلوب تعامل مؤسسات الدولة مع تلك المناطق، ليس فقط من جانب الداخلية، بل أيضاً من كافة مرافق الدولة الخدمية التى ينبغى أن تتحرك فوراً لاستكمال وجودها هناك (مياه الشرب - الصرف الصحى - الطرق - رغيف الخبز - الحد من التلوث البيئى بكافة صوره المتعددة بالمنطقة..). 3- ولا يمكن بالطبع أن نغفل أهمية الدور الذى تقوم به المنابر فى بعث روح المواطنة، واستعادة الولاء، وفى هذا الإطار فإن وزارة الأوقاف ينبغى أن تعيد النظر فى معايير اختيارها لأئمة المساجد، لا فى هذه المنطقة فحسب، وإنما على مستوى كافة المدن والقرى البعيدة عن العاصمة، وذلك على النحو الذى يكفل وجود عناصر معتدلة هادئة مثقفة قادرة على امتصاص مشاعر الحنق والغضب الراهنة لدى الأهالى، وإعادة نشر قيم المواطنة والتسامح. 4- كذلك فإن وزارة الشئون الاجتماعية ينبغى أن تدخل متضامنة مع الجمعيات العاملة بالمنطقة فى مواجهة احتياجات الأهالى التى تفوق قدرة هذه الجمعيات بلا شك.. التنسيق بين كشوف المتلقين للمساعدات من قبل تلك الجمعيات، وجلب المزيد من الجمعيات الخيرية المهتمة بالغذاء والعلاج.. إلخ يكفل زيادة معدلات الدعم، كما يمنع تكرار حصول شخص على دعم أكثر من جمعية، فى الوقت الذى يحرم فيه غيره من هذا الدعم. 5- وأخيراً.. تلك دعوة للقوات المسلحة لمد نشاطها الخيرى إلى تلك المناطق.. الشنط التى اعتاد الجيش تقديمها للأسر الفقيرة خلال المواسم والأعياد لن تمثل مصدراً إضافياً لمساعدة الأهالى فحسب، بل ستشعرهم بوجود الدولة، وتعيد أواصر الثقة والولاء، ودعوة أخرى للمستثمرين الذين اتجه بعضهم لتلك المناطق باعتبارها أقرب مناطق زراعية ريفية للقاهرة، ألا يكتفوا بمجرد بناء فيلات ومساكن للاستجمام والراحة فى نهاية الأسبوع، بل توجيه جزء من استثماراتهم لخلق فرص عمل جديدة لأبناء المنطقة.. ذلك يساهم فى ارتقائها، كما يؤمّن ممتلكاتهم. ■ ■ ■ مستطيل الفقر والتطرف هو منطقة بمحافظة الجيزة، تعانى من مأساة إنسانية، تفاقمت مع الزمن فتحولت إلى مركز أزمة، ونقطة تهديد لعاصمة الدولة الملاصقة لها، ليس فقط فى صورة مظاهرات واعتصامات ومحاولات تخريب ضمن جماهير غاضبة، وإنما وصل الأمر إلى أنشطة ضمن تنظيمات إرهابية مسلحة، فضلاً عن محاولة التحصن داخل المدن «كرداسة - ناهيا» لإنشاء دولة خارج القانون.. معالجة الموقف ليست مسئولية الأمن فقط، لكنه فى الأساس التزام إنسانى على الدولة تجاه قطاع مهمل من رعاياها، حتى المعالجات الأمنية ينبغى أن تتسم بالرصانة والحرص على المدنيين رهائن الإرهاب الأسود.. لذلك.. ليس هذا مقالاً يسعدنى قراءتكم له، بقدر ما هو صرخة أتمنى الاستجابة لها.