أثارت ثورة 30 يونيو وما تلاها من أحداث الحنين إلى الكبرياء الوطنية، وأكد البعض حاجة مصر إلى «عبدالناصر» جديد باعتباره رمزا لهذه الكبرياء؛ فقد رفع «عبدالناصر» اسم مصر عالياً بين دول العالم، ويذكر له التاريخ أنه لم يسمح لدولة فى العالم، مهما كانت مكانتها، أن تهين مصر أو تتدخل فى شئونها الداخلية، وفى التاريخ أمثلة حية لذلك؛ فعندما أمم جمال عبدالناصر قناة السويس واستنفرت دول الغرب الاستعمارى قواها لمواجهته وإجباره على العدول عن التأميم وعقدت مؤتمر لندن لهذا الغرض وأوفدت وزير خارجية أستراليا إلى مصر وكان شخصية استفزازية اشتهر بتصريحاته النارية ضد الإجراء المصرى وكانت مهمته تقديم إنذار لجمال عبدالناصر للعدول عن التأميم، وافق جمال عبدالناصر على استقباله، وفى نفس الوقت أخطرت وزارة الخارجية المصرية السفارة الأسترالية أن جمال عبدالناصر سوف يطرد وزير الخارجية الأسترالى من مكتبه إذا وجّه إليه إنذارا بالعدول عن التأميم، وتمت الزيارة دون أن يتفوه هذا الرجل بكلمة واحدة تحمل معنى التهديد. هذا مجرد مثال لرئيس دولة يحترم بلده ويعرف قدره ومكانته بين الدول. لكن الكبرياء الوطنية لمصر لم تكن فقط فى المظاهر بل كانت فى جوهرها سياسة جديدة تبناها جمال عبدالناصر لبناء الاقتصاد الوطنى بما يمكن مصر من الاستغناء عن المساعدات الخارجية وبناء تحالفات دولية تكون مصر طرفاً أساسياً فيها تقوى قدرة الدول المستقلة حديثاً فى مواجهة الضغوط الخارجية وتبنى مع «نهرو» و«تيتو» سياسة الحياد الإيجابى وعدم الانحياز، وأسس الثلاثة حركة دولية قوية تصدت للدول الرأسمالية الكبرى وهيمنتها على الاقتصاد العالمى وسعيها إلى استعادة نفوذها بوسائل اقتصادية تحت قيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية. ولأن التاريخ لا يكرر نفسه فإن مصر وهى تستعيد كبرياءها الوطنية الآن، وتخوض معركة جديدة من أجل إثبات حقها فى ممارسة سياسة مستقلة عن أى تأثير خارجى، فإنها ليست فى حاجة إلى «عبدالناصر» جديد وليست فى حاجة إلى من يبشرون بالفريق أول عبدالفتاح السيسى نسخة جديدة ل«عبدالناصر»، فقد تطورت مصر وخاضت معركة كبرى فى 25 يناير من أجل الثورة على النظام السلطوى الاستبدادى ل«مبارك» ودخلت مرحلة التحول الديمقراطى من أجل بناء نظام ديمقراطى لا مكان فيه للقائد الفرد، بل يكون الشعب فيه مصدر السلطات وبهذا يحل الشعب المصرى محل القائد الفرد. ومن هنا فإن المطلوب فى هذه المرحلة، لاستعادة الكبرياء الوطنية لمصر، هو سياسات جديدة تنفذها حكومات منتخبة بإرادة شعبية حرة. سياسات جديدة تقوم على رفض أى تدخل أجنبى فى الشئون الداخلية لمصر، وسياسات اقتصادية جديدة ببناء اقتصاد وطنى مستقل يعتمد على الإمكانات الذاتية للشعب المصرى وعلى الموارد الذاتية لمصر ليستغنى عن المساعدات الخارجية. ومطلوب أيضاً سياسة إقليمية جديدة تستعيد الدور القيادى لمصر فى الوطن العربى، وسياسة تحالفات دولية جديدة تقوم على التعاون بين الدول التى تسعى إلى تأكيد استقلالها الوطنى فى مواجهة الهيمنة الأجنبية.. بهذا كله وبغيره من السياسات الرشيدة نستعيد الكبرياء الوطنية لمصر ومكانتها الإقليمية والدولية دون الحاجة إلى استعادة مصر القائد الفرد. فقد ولى عهد القيادات الفردية وحل محله عصر الشعوب الواعية.