هل حادث اغتيال القمص «سمعان شحاتة»، كاهن كنيسة القديس «يوليوس» بمحافظة بنى سويف، طائفى.. أم إرهابى.. أم هو حادث إرهابى يتنكر فى زى طائفى.. أم هو حادث طائفى يتخذ شكلاً إرهابياً.. ومن ثم هل قتل الكاهن بدوافع شخصية مشحوناً بفتاوى التكفيريين.. أم أن جهادياً ينتمى إلى جماعة متطرفة خططت لاغتياله واستخدمت هذا المأفون أداة للتنفيذ.. أم أن الحادث عشوائى بحت قام به مريض عقلى؟! انقسم الأصدقاء من النخبة المثقفة والمفكرون وكتاب الرأى إلى فيالق مختلفة لتفسير الجريمة وتحليل الأسباب والدوافع والنتائج فى إطار وجهات النظر المتعددة، وعلاقة السلفيين والمتشددين دينياً بأطياف التطرف المتأسلم وصولاً إلى تنظيم القاعدة، و«داعش». والحقيقة أنه لا تناقض على الإطلاق بين كون القاتل متطرفاً دينياً يزدرى الأقباط ممثلين فى رمزهم الدينى وهو القس وبين كونه مختلاً، فالمتطرفون بالضرورة والحتمية ليسوا أسوياء، وليس من المدهش ولا من الغريب أن يكونوا قتلة لأسباب طائفية نابعة من نفس مريضة.. لذلك فقد دهشت من أن اللغظ المثار حول ما إذا كان القاتل عاقلاً ارتكب جريمته وهو فى كامل وعيه ولياقته الذهنية بسبق الإصرار والترصد وبين كونه يعانى من مرض عقلى.. وعجبت من هذا الفصل القاطع البات الحاسم فى تصنيف الجريمة، الذى أرى أنه جاء نتيجة الخوف من أن اليقين بتغييب العقل عن المتهم سينفى عنه المسئولية.. وبالتالى سيفلت من العقاب بإيداعه مؤسسة علاج نفسى بدلاً من محاكمته محاكمة جنائية.. وهو ما دفع كاتبة صحفية إلى اتهام الأمن بالتحالف مع المجانين ضد المسيحيين وكذلك بإعلام الوصاية الذى يبارك إهدار الدماء كل مرة بوصف الجانى مختلاً عقلياً أو مهتزاً نفسياً، إنها تحالفات الأفاعى التى تدك أمان هذا الوطن وتدفع به نحو الهلاك. والحقيقة أن هذه رؤية قاصرة تغفل التفسير النفسى للتطرف والإرهاب وتأثير الأمراض النفسية التى يعانى منها المتطرفون على السلوك.. وكيف يتحولون إلى شخصيات سيكوباتية.. يلجأون إلى العنف والإرهاب والقتل والذبح والاغتيال الفردى والجماعى بالإضافة طبعاً للحضور الطاغى للإسلام السياسى بعد (25 يناير) ومساهمته فى تمزيق وانقسام الوطن.. والدور الذى لعبه شيوخ الفضائيات والدعاة الجدد فى تجنيد الإرهابيين حول العالم.. وفى كتابه التفسير النفسى للتطرف والإرهاب يسرد المؤلف «د.شاكر عبدالحميد» آراء عدد من الباحثين الذين يرون أن الإرهابيين يعانون من مشكلات سيكولوجية عميقة.. فهم عدوانيون ومختلون ومتبلدو المشاعر ومنغلقو التفكير.. يقتلون بدم بارد ويعادون الحضارة والتقدم والعلم والمرأة والفنون، ويرى باحثون آخرون أنه لا يوجد ما يمكن أن نسميه الشخصية الإرهابية لكن هناك تلك الاستعدادات الشخصية التى توجد لدى بعض الأفراد مثل الميل إلى العدوان أو المخاطرة والتى تتفاعل عبر عمليات التربية مع الظروف البيئية والدينية فتجعل شخصاً ما يميل إلى مثل هذا السلوك المتطرف العنيف. وقد قام الباحث «ستيرن» بمقابلات شخصية مع عدد من الأصوليين المسلمين واليهود والمسيحيين.. والسيخ.. والهندوس.. وأكد أن المقابلات تشير إلى أن الناس يلتحقون بالجماعات الدينية المتطرفة كى يحولوا أنفسهم إلى شكل وسلوك يرونه أفضل وأنهم يُبدون هذا السلوك عندما يشعرون بالمهانة والإقصاء وسوء التقدير ويغضبون كثيراً من نظرة الآخرين إليهم باعتبارهم ينتمون إلى مرتبة أدنى ومن ثم فإنهم يتخذون اتجاهات جماعية جديدة تقوم بأعمال فدائية أو استشهادية (كما هو الحال فى حالات المفخخين فى العمليات الأخيرة).. وهكذا يقوم الإرهابى بالتركيز على الفعل مستعداً أن يضحى بحياته معتقداً أن موته سوف يؤدى فى النهاية إلى خير عميم.. وهكذا يتحول الغضب إلى عقيدة.. وانعكاس التأثير النفسى المرضى على شخصية وسلوك وأفكار المتطرف يمكننا أن نحس بذرتها فى «سيد قطب» نفسه.. فتكفير المجتمعات وازدراء وكراهية ومحاولة إقصاء الآخر هى المقدمة المنطقية الواضحة للإرهاب فرحلته إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية التى عاد منها فى أغسطس (1950) جعلته يزداد كراهية ورفضاً للغرب ولأمريكا.. وكتب بعد عودته يقول إن أمريكا تشوه الذين يدرسون فيها.. والذين يتخرجون فى جامعاتها فيعودون إلى بلادهم دون شخصية أو كيان ودون علم أو أدب أو خلق إلا من رحم الله فثبته هناك على دينه واستعلى عليهم بإيمانه، وعاد أكثر ثقة بدينه، وأنفذ بصراً بما حوله.. والإشارة هنا إلى ذاته فى تجربته هو فى الولاياتالمتحدة..
والحقيقة أننا كثيراً ما نتعامل مع المريض النفسى فى إطار موقفنا من سلوكه تعاملاً اجتماعياً دون الانتباه إلى أعراض مرضه النفسى بمعنى أننا نرى أن سلوكه المرضى ليس سوى جزء من سمات شخصيته أو مكوناتها.. فمثلاً المصاب بالعصاب الهستيرى أو مثلاً المصاب بفصام «البارانويا» الذى يدفعه إلى الثورة الجامحة المصحوبة بالعدوان على الآخرين لأتفه الأسباب نصفه بأنه «عصبى شوية»، دمه حامى، لكن قلبه أبيض.. «يهب يهب لكن بينزل على مفيش».. بينما «مفيش» تلك قد تؤدى إلى ارتكابه جريمة.. يتضح ذلك جلياً فى تعليقات زوج السيدة التى هزت جريمتها أرجاء الإسكندرية العام الماضى والتى ذبحت طفليها وتم إيداعها إحدى المصحات النفسية.. وأكد زوجها أنها كانت تتسم بحدة الطبع والعصبية الشديدة.. لكن كان قلبها يصفو فى الحال.. ومريض فصام البارانويا يصبح خطراً على الغير نتيجة لتوجيهات عدائية تصدر عن أصوات يسمعها هو لا يسمعها الآخرون.. «هلاوس سمعية» مصحوبة بتشوش فى الوعى وهياج عصبى.. وهذه الهلاوس السمعية عبرت عنها قاتلة طفليها فى التحقيقات بقولها إن هناك حالة غريبة انتابتها حينما طلبت من طفلها «يوسف» (عشر سنوات) أن يعاونها فى أعمال المنزل ورفض.. فلم تتمالك أعصابها لحظتها وجن جنونها.. وقامت بضربه فصرخ.. فلم تحتمل صراخه.. وكان هاجساً بداخلها يردد: اقتليه.. اقتليه.. فأمسكت برقبته ثم سحلته على الأرض بطريقة وحشية.. وكتمت أنفاسه وخنقته بحبل غسيل ثم ذبحته بسكين كبير.. ثم ذبحت أخته بالطريقة نفسها.. من الواضح، إذاً، أن هناك علاقة بين مرض الفصام والجريمة؛ فالفصامى استجاب لأصوات هلاوسه التى توجهه توجيهاً إجرامياً مباشراً.. ومن ثم فلماذا لا يكون قاتل القس هذا فصامياً استجاب لأصوات هلاوسه التى دفعته إلى قتل الكاهن.. ويمكن أن تكون أيضاً ممزوجة بهلاوس بصرية تصوره بزيه الكهنوتى عدواً بغيضاً شريراً ينبغى قتله لإراحة الناس من شروره.. لكن العامة يجهلون عادة طبيعة الأمراض النفسية والعقلية وأعراضها والفروق الجوهرية بينهما.. ولا يرون فى المريض العقلى إلا نموذجاً للرجل الذى يرتدى زياً غريباً ويسير فى الشوارع يحدث نفسه ويشتم المارة، والصبية يقذفونه بالطوب.. أو ذلك الذى يقف عند إشارة المرور يضع أغطية المياه الغازية على صدره ويحمل علم «أمريكا» ويقوم بتنظيم حركة المرور.. وكذلك فإن العامة أيضاً حينما يمرضون بمرض نفسى أو عقلى لا يذهبون إلى الطبيب النفسى الذى عادة ما تقدم شخصيته فى الأعمال الدرامية مشوهة نتيجة جهل أغلب كتاب السيناريو والمخرجين بطبيعة مهنته.. فيظهر فى الأعمال الكوميدية غريب الأطوار يهذى بعبارات هزلية أو خاطئة ولا علاقة لها بالطب النفسى على الإطلاق.. ويبدو أكثر مرضاً من المريض نفسه.. الإرهابى، إذاً، مريض لكنه لا يملك «مرآة نفسية» يرى نفسه من خلالها.. وإن وجدها فلن يستطيع أن يصل إلى حقيقة معاناته وآلامه النفسية التى جعلت منه هذا الكائن البشع لأنه يحتاج إلى علاج على يد طبيب متخصص.