1- الصلب رأيته للمرة الأولى منذ سنوات عديدة بدار الأوبرا، يحتفى بذكرى رائعته «البرىء» يحكى للجمهور كيف خرج أحمد سبع الليل ورفاقه للعلن، فى وقت كانت ذرة تراب على نجمة ضابط نحاسية تصيب كثيرين بالهلع، حكى تفاصيل الولادة السينمائية المتعثرة، وتغيير النهاية، لتأتى أخرى أكثر تجريداً وسحراً، بمجىء دفعة جديدة من الأبرياء للمعتقل. ثم نكتشف أن وحيد حامد نجا من موجة «سينما التعذيب ومراكز القوى» التى نافقت عصراً على حساب آخر، ولم يربط البرىء بزمن معين، لتمتد الإدانة للدولة البوليسية لكل العصور، بما فيها عصر مبارك الذى أنتج فى عهده. حكاية البرىء كانت مفتاح فهم شخصية «الموهوب الصلب»، الرجل الذى نكأ الدولة البوليسية فى رأسها، بمرونة التفاصيل، وصلابة النتائج، تراجع فى الهامش ليمر المتن، وهى معادلة يحرص عليها المبدعون الكبار، من يدركون أن قليلاً من الدهاء ضرورى لاكتمال المشروعات الكبرى، فكما لجأ نجيب محفوظ للرمز الأدبى فى الزمن الناصرى المتحفز للمبدعين، طعن وحيد حامد الاستبداد والتطرف والفساد بخنجر يعزف موسيقى، فاكتشفنا أن خصومه بعد رحلة نصف قرن، هم الفاسدون والمستبدون وناهبو الأوطان، وتجار الأديان، ربح الحرب ضدهم جميعاً، بلا هزيمة فى معركة واحدة، والمعارك التى بدت صغيرة، شكلت فى مجموعها نصراً كبيراً، بفضح هؤلاء، ودق أجراس الخطر، التى تقول لنا إن مصر تضيع بالفساد والتطرف. قائمة المعارك الدرامية طويلة؛ البرىء والمنسى، اضحك الصورة تطلع حلوة، طيور الظلام، العائلة، أوان الورد....... والصلابة كانت عنوانها الأبرز، خاصة تلك التى نازل خلالها أوهام العامة المخدوعين بسلع الإسلامجية، وهى سلع روجتها دولة السادات، وأموال النفط، ووجدت سوقاً يفتح ذراعيه لها بالملايين فى دولة مبارك. قبل أن تغرق السوق السياسى والثقافى كله بعد ثورة يناير، وحيد حامد كان شرساً وصلباً فى اختياره عدم «نفاق العامة»، وتحمل بجلد ودأب فلاح شرقاوى من «بنى قريش»، موجات التكفير وطعن الإيمان إلى أن أثبتت الأيام رجاحة اختياره. رحلة وحيد حامد طويلة وقاسية، بدأت فى الستينات كشاب فقير لا يملك سوى الموهبة، انتظر 13 عاماً كى يعرف الناس اسمه بمسلسل أحلام الفتى الطائر، وصلت الرحلة به إلى مرتبة الفيلسوف الدرامى الذى يرى على بعد عقد على الأقل، فمثلما كتب نجيب محفوظ «القاهرة الجديدة»، قبيل عشر سنوات تقريباً من قيام ثورة يوليو، متنبئاً بأن المجتمع على وشك الانفجار، كتب حامد مشهد نهاية الإسلامجية بجانب الفاسدين فى سجن طرة، توقعنا انهيار الدولة البوليسية، رأينا فى سينماه إرهابى سيناء، وجشع الشاطر، شاهدنا مهدى عاكف وهو يأمر النساء بالنزول للمظاهرات كدروع بشرية، ولم تكن التنبؤات ضرباً من الدجل، بل بصيرة أديب، أصر على تسمية ما يكتبه «نصاً سينمائياً» مستنكراً سؤال مذيعة ساذجة، تثنى على ما أسمته «الورق»، وهو المصطلح الذى ساد «سوق السينما» فى عصر «جزاريها». الإصرار على تقديس ما يكتب، ومنح موهبته ما تستحق من تبجيل، هو وجه من وجوه المبدع الصلب، الذى يكافئه التاريخ الآن بجائزة لم تأت فى خاطره أبداً، أن يتداول شباب صغار، مقاطع من أعماله، كدليل على صحة ما طرحه منذ عقود، هذه الجائزة ترمم جروح المعارك القديمة، وتريح النفس، مثله مثل من ظلموا بسيف الجهل والتطرف، وبيع الضمائر فى سوق تجارة الدين، جائزة تمنحه بعض العزاء كما منحت روح فرج فودة بعض الراحة. الزمن يصالح المبدعين الذين لم ينكسروا، فنهدى بعضنا فيديوهات وحيد حامد، وأقاصيص من كتب فرج فودة، نحتفى برؤاهم القديمة، ونعيد الاعتبار إليها، وهذا أظنه يكفى. 2- الحكيم - الستات يا ولدى زى الشمس نحبها أيام، ونكرها أيام لكن عمرنا مانقدر نستغنى عنها.! (على الشريف فى «الإنسان يعيش مرة واحدة»). - الحكومة مالهاش دراع عشان تتلوى منه (كمال الشناوى فى «الإرهاب والكباب»). - اللى يشوف البلد دى من فوق غير اللى يشوفها من تحت (عادل إمام فى «طيور الظلام»). - لما بنخدم بنخدم بجد ولما بنئذى بنئذى بجد.. معانا طريقك مفيهوش مطبات صناعية (أحمد زكى فى «معالى الوزير»). هذه عينة من حوارات شخصيات وحيد حامد، تتناقلها الألسنة، كخلاصات للحكمة، ورغم أنها حكمة مرهونة بإيمان شخصياتها بها، فلكل شخص حكمته التى تتحكم فى حياته، لكن المتلقى تعامل معها بقدسية حكمة الأجيال المتعاقبة، ومثلما يجلس الصعيدى خاشعاً أمام سيد الضوى، بتراتيله متأملاً (عبر) غزوات الهلالية ودروسها، ومستعيناً بحصيلة أشعار ابن الفارض على تقلبات الحياة، تقترب جمل وحيد حامد من هذه المكانة، أخذت موقعها فى ذاكرة الحكمة، يقظة سهلة عذبة. حكمة عابرة للأيدلوجيا، متحررة من عقد الفن الخادم للسياسة، منبعها الإنسانية فقط بلا تحيزات. «حكمة» لا تندثر باندثار الربابة، ولا نخشى عليها من موت الرواة، تحفظها ذاكرة السينما، وتوثقها الميديا الجديدة، ويمنحها الزمن بجريانه صدقاً إضافياً بزيادة المؤمنين بها. أيها الحكيم الصلب شكراً لك.