سوف تظل حاضرة بعد مرور واحد وستين عاماً، ثورة يوليو التى فجرها جمال عبدالناصر، وذلك لا يرجع فى تقديرى لما حققته من مكاسب اجتماعية ومكانة وطنية رفيعة فحسب، بل لكونها فلسفة حياة ومشروع وطن. ومنذ أيام كتبت مجلة «ماريان» الفرنسية عن ثورة يونيو فأبرزت «حضور» جمال عبدالناصر، الذى أحبته الجماهير بقوة فى كافة الأحوال، وسواء كان منتصراً أو مهزوماً، فالجماهير تناديه وتبكيه، وصوره، وهو الغائب منذ أكثر من أربعة عقود، تأخذ مكانها جنباً إلى جنب مع صور الفريق أول عبدالفتاح السيسى والعلم الوطنى. وأهم بنود المشروع الناصرى هو العدالة الاجتماعية، ولا تزال عبارته المعبرة بعمق عن فلسفته فى الحكم، ماثلة أمام الأعين، إذ قال «من لا يملك قوت يومه، لا يملك حرية قراره» ومن هنا كان التركيز على الانحراف عن طريق يوليو. وخاصة عن تحقيق هذا الشعار، بنصائح من الولاياتالمتحدة والمؤسسات المالية الدولية الخاضعة لنفوذها.. ومن أخطر ما جرى عقب سياسة الانفتاح، الذى وصفه أستاذنا الراحل أحمد بهاء الدين بالانفتاح السداح مداح، اختل الميزان الاجتماعى وانسحبت الدولة انسحاباً كاملاً من حياة الفقراء وكأن عاقلاً يمكن أن يتصور إمكانية علاقة متساوية بين أحد مليارديرات الانفتاح ومواطن بسيط لا يملك قوت يومه. وما يستوقفنى اليوم هو استمرار أخطر ما يهدد أى حلم فى التقدم وتحقيق الكرامة، فى ظل وجود آفتىْ الفقر والجهل. إن أى كلام لا يضع هاتين المشكلتين فى صدر أولويات العمل الوطنى يكون نوعاً من الوهم القاتل.. والمشهد الذى تمر به البلاد منذ ثورة يناير وحتى ثورة يونيو وما زلنا نعيشه يؤكد صحة اعتقادى، بأن ما يهدد مستقبلنا هو انسحاب الدولة وترك الملعب بصورة شبه تامة، لتيارات اليمين الدينى المتطرف، والذى أدرك أن الأرض المنهكة خصبة لبذر أفكاره المسمومة والسامة. دخلت هذه التيارات بقوة إلى الحياة المصرية مستغلة انسحاب الدولة من التزاماتها التى أعلنتها ثورة يوليو وعلى رأسها أن العمل حق والعمل شرف والعمل واجب.. عادت سياسة الكراتين، الزهيدة التكاليف، لحصد سلطة ونفوذ وثروات هائلة، وقد دعمت أطراف داخلية وقوى وجهات خارجية، هذا التوجه الذى أشاع اليأس لدى المعوزين واتسع معه خضوعهم شيئاً فشيئاً لمفاهيم هؤلاء لضرب مشروع يوليو وحلمها فى الصميم.. وأشير هنا إلى مشهد رجل سأله المذيع عن سبب اعتصامه فى ميدان النهضة فأجاب بمنتهى الثبات ودون أن يطرف له جفن بأنه يدافع عن الإسلام لأن سلطات «الانقلاب!» منعت رفع الأذان فى المساجد، وطبعا كلنا شاهدنا كيف تتم رشوة الفقراء، ليس بكرتونة بها ما قد يكفى وجبتين أو ثلاث، بل مجرد وجبة واحدة، لحصد كافة مناصب الدولة بهدف تقويض هذه الدولة وإدخالنا إلى نفق حالك الظلام والإظلام، فمن ناحية قال صاحبنا، وهو مجرد مثل، إن السلطات منعت رفع الأذان، وكأنه لا يسمع أو بالأحرى تتم «برمجة» هؤلاء الأميين بحيث لا يسمعون ولا يبصرون ولا ينطقون إلا ما يريده من عملوا نحو أربعة عقود لتعطيل الحواس البشرية وتوجيهها كيفما شاءوا. معركة مصر الحقيقية تكمن فى إرساء مطالب الثورة الأم والثورتين اللتين ورثتا عنها أعلى قيمة إنسانية وهى العدالة الاجتماعية.. وعندما تعود الدولة لدورها الأساسى برعاية كل مواطنيها وعدم تركهم فريسة للفقر والجهل ومن ثم فريسة لأعداء مفهوم الوطن والمواطنة والاتجار بالدين بالحرص على استمرار التخلف إلى حد أن يصدق رجل أن الحكومة منعت رفع الأذان الذى يسمعه الملايين، فساعتها ستعود مصر إلى وجهها الحضارى الإنسانى، وعلى أى حكومة أن تدرك أنه لا سبيل إلا إرساء العدالة الاجتماعية وعودة الدولة إلى دورها الطبيعى وجزء أصيل منه التعليم والقيام بحملة واسعة بمساعدة المنظمات المدنية لمحو الأمية، وهذا شرط النهوض وسد أبواب تسلل أعداء التقدم والحرية لأنه وكما قال الزعيم الخالد «من لا يملك قوت يومه، لا يملك حرية قراره».