الرصاص وحده لا غيره، هو الذى كان قادراً على إسكاته وهزيمة منطقه ودحض حججه. الرصاص ولا شىء آخر، لا أسماء الشيوخ الذين واجهوه أمام الآلاف ولا كلامهم ولا علمهم ولا منطقهم ولا استمالتهم الناس بالعاطفة الدينية. كان فرج فودة أول من بدأ مواجهة فكر الجماعات الدينية علناً، منذ أعادها ونماها واستفاد منها السادات، فى مواجهة خصومه وإرهابهم، كما استفادت هى منه واستغلته وخلصت منه عندما قويت وانتهى انتفاعها به كعادة الإسلاميين. إنجاز فرج فودة الرئيسى أنه فتح ونقل مسائل وإشكاليات الفكر الدينى إلى الجمهور، أخرجه من الكتب وأباحه فى كل مكان يحل به، فى المؤتمرات والندوات والمقاهى والتليفزيون والجرائد، هو من ابتكر عقد ندوات شعبية ليناقش المشايخ ويقارعهم بالحجج التى فتحت أبواب الأسئلة أمام الذين لم يسمعوا من قبل الأسئلة، ومنذ مقتله لم يظهر من القوى المدنية من يملأ مكانه كخطيب مفوه بصوته الجهورى الهادئ العميق، وشجاعته، ولغته القوية وبلاغتها، ووضوح أفكاره واستقامتها صريحة مباشرة، ساعده جسده الضخم المهيب بما يليق ببطل فى رواية شعبية، وبما يزيد تأثيرخطابه حتى عند خصومه الذين يبجلون ضخامة الجسد ويلتمسونها. وعلى عكس توفيق الحكيم الذى قال: هل أنا مجنون لأقول كل ما أفكر فيه، وعاد إليه القول والشجاعة بعد رحيل عبدالناصر، كان فرج فودة مجنوناً بأفكاره ومخلصاً لها وصريحاً نادراً فى التعبير عنها، فكان بذلك فلتة بين الكتاب والمثقفين (بكسر القاف)، يجب أن نقدر هذه الشجاعة والمبادرة وقت ظهورها لأن مثقفا غيره وقتها لم يبدأ بالمساءلة العلنية. كانت صفاته تلك سبب الغيرة منه والحنق عليه، كان وحيدا، بدا ذلك فى جنازته وعزائه، كيف له كل هذه الشجاعة وحده؟ وكل هذا المنطق وحده؟ كان البعض حتى من القوى المدنية يراه مستفزا. ما الذى يدعو للاستفزاز فى الوضوح والصدق، غير الرغبة فى المواربة والالتواء والتخفى والعجز والراحة والإنكار؟ وهو لم يكتب فقط، ولكن إنجازه الآخر أنه كان دارساً للفقه والتاريخ الإسلامى، وبذا ألحق بمحاوريه الهزيمة على أرضهم وبأدواتهم، لكنهم انتقموا من خطره وفكره وهو ميت، عندما أفتى الشيخ الغزالى (إخوانى) ببدعة، ودعما لقاتل فرج فودة أمام المحكمة، أنه يجوز لأى من الرعية أن تقتل من تراه كافراً دون عقاب، لأن هذا القتل مجرد افتئات على السلطة، ورغم أن الرسول نفسه لم يقتل مرتداً ولا كافراً إلا فى قتال، بينما كتب فودة الشهادتين وأعلن فى مناظرات أنه مسلم. كان فودة قد هاجم الغزالى الذى قال (إن السودان لم يهنأ بشىء كما هنئ بهذه المرحلة الطيبة.. النقية.. التى جعلته يتخلص من وباء الأحكام الوضعية)، وهاجم مرشد الإخوان التلمسانى الذى أرسل للنميرى: أن يحصد الديمقراطيين ويكبح جماحهم ولا يسمح لهم بحرية الرأى، فشرع الله لا نقاش فيه، وكان النميرى يقطّع فى أيادى وأرجل ورقاب الفقراء، باعتبار أن ذلك الإسلام!