يمسك بالعود، يحرك أصابعه فى أناة على أوتاره، يسمع رنة غير متناسقة، يميل بأذنه على رفيق الدرب الفاجومى، يخبره بأن ثمة نشازاً موجوداً، يعود بأصابعه عند طرف العود، يعدل من شدة الأوتار، يحدق الجالسون بأبصارهم على يديه وحنجرته، لا يراهم، يشعر بهم، ويدركونه بألحانه، وعزف أغانيه، ينشد «يا مصر قومى وشدى الحيل.. كل اللى تتمنيه عندى». لفظه بطن أمه بعد أبناء سبعة فارقوا الحياة وهم بعد أطفال، ما إن أتم الشيخ إمام عيسى عامه الأول حتى أصيب برمد، تسبب الإهمال الطبى فى إصابته بالعمى الكامل، ضاع نور البصر، لكنه عرف الطريق للبصيرة، عرف أن الرؤية تأتى من الداخل، عايره أطفال قرية «أبوالنمرس» بالعمى، زادوه قوة، أصر على التعلم، وحفظ القرآن كاملاً، طاف بين الموالد والأفراح، يسترق السمع لأهازيج السيدات والغناء الشعبى، ومن خلال الراديو، يستمع إلى صوت الشيخ محمد رفعت يشدو بآيات الذكر الحكيم التى يحفظها، ربّى أذنيه، فشب على قيمة السمع فى تشكيل الوجدان. لعبت الصدفة دوراً فى توهجه، حيث كان فى الغورية مع أبناء قريته يتلو القرآن فى المناسبات، فأعجب به الشيخ درويش الحريرى، قرر اصطحابه معه، فى منتصف الثلاثينات، سمعه زكريا أحمد، وكان ملحن «أم كلثوم» الأشهر لا يجيد حفظ الألحان التى يصنعها، فكان الشيخ إمام أمين سر الألحان، الذى يحفظ له ألحان «أنا فى انتظارك» و«أهل الهوى» وكان الشيخ إمام يتفاخر بحفظه الألحان قبل غناء «الست» لها، وحين بدأت الألحان فى التسرب، استغنى زكريا أحمد عنه، فكانت نقطة التحول، حيث خلع الشيخ إمام عباءة الشيخ، ورفل فى قميص وبنطال، وتوحد مع نظارته السوداء وعوده الخاص، يجول بين الشوارع، يلف على الحارات والأزقة، يرتاد الجامعات ويسكن حلقات الغناء، يلهب حماس الحضور، يغنى عن مصر والنكسة والحرب والحب، يناجى جيفارا «مات المناضل المثال.. يا ميت خسارة ع الرجال» هو صوت كلمات أحمد فؤاد نجم، وروح مصر التى يعبر عنها بالصوت والكلمة. وقعت النكسة، فسخر مغنياً: «الحمد لله خبطنا تحت بطاطنا.. يا محلى رجعة ظباطنا من خط النار»، يستخدم الرمز فى أغانيه «والبقرة حلوب حاحا.. تحلب قنطار.. حاحا.. لكن مسلوب.. حاحا.. من أهل الدار». تكرهه السلطة، لاحقته وسجنته، فغنى «اتجمعوا العشاق بالزنزانة.. مهما يطول السجن مهما القهر.. مهما يزيد الفجر بالسجانة.. مين اللى يقدر ساعة يحبس مصر». فى منتصف التسعينات، فى يونيو تحديداً، حيث الشهر الذى كسر جيل بأكمله، انزوى الشيخ إمام فى منزله بالغورية، اعتزل الناس والغناء، آثر الوحدة، مات فى هدوء، لكنه ظل حياً ب«شرفت يا نيكسون بابا»، وبقى فى قلوب العشاق ب«أنا أتوب عن حبك أنا» وما زال يلهب حماس الشباب فى المظاهرات ب«شيد قصورك على المزارع».