جالساً على تلك الأرض الصلبة، مرتدياً جلبابه الصعيدى الفضفاض المهترئ، الذى يخفى وراءه سرواله الأبيض، تحت سقف محل صغير مُعلق على جدرانه قطع دائرية محشوة بالقش هى «رقبية الحصان» كما يسميها، علاوة على بعض الأحزمة الجلدية الطويلة التى تعد بمثابة لجام وقت اللزوم.. إنه «عم جمال»، الرجل السبعينى، الذى لا يعتبر مهنته مهينة، ويُعرف نفسه بأنه «تاجر قطع غيارات الحصان». بعينيه الجاحظتين ينكب عم «جمال» على تلك الماكينة العريقة التى تتعثر فيها أثناء دخولك محله والتى يسميها «الملزمة»، قابضاً بيديه على قناع ترتديه الدابة لإرغامها على السير فى طريق مستقيم يطلق عليها «نضارة»، كان فى السابق يقوم يومياً بصنع بضع قناعات جلدية تحمى الدابة -خاصة فى الصيف- من حرارة الشمس. لكن لأن «الحال نايم وميت» على حد قوله، أصبح فى انتظار سماع تلك «الشخللة» الموسيقية الصادرة من العقد النحاسى الذى يزين عنق الحصان، راجياً من الله أن يكون مقصد تلك الدابة دكانه الصغير لصنع «نضارة» جلدية لها، فى الوقت الذى حالت الظروف القاسية للرجل المسن دون صُنع نظارة طبية تساعده على الرؤية. ولأنه ينحدر من عائلة فقيرة لم يتعلم «عم جمال» واكتفى فى صغره بالعمل صبيا فى إحدى ورش مصر القديمة، ليتمكن بعد أن «شرب» أصول المهنة من استئجار محل صغير بمنطقة بولاق الدكرور، قضى فيه معظم أوقات حياته، وكان ذلك الدكان هو مصدر رزقه الوحيد هو وأولاده. ولأن دوام الحال من المُحال يقول: «بقيت عامل زى الحى اللى لابس الكفن.. لا فيه شغل ولا أى حاجة.. أيام كتير بروح البيت وما بيبقاش معايا ولا مليم.. طب أصرف إزاى على عيالى.. أسرق ولا أعمل إيه.. لو جمال عبدالناصر عايش كنت أكيد هكون مبسوط.. على الأقل كان ممكن يطلعلنا معاش عشان يساعدنا.. وعلى العموم ربنا ما بينساش حد». دبابيس نحاسية صغيرة هى ما يستخدمه عم جمال لتزيين القطع الجلدية التى يضعها على وجه الحصان: «أى حيوان من غير نضارة مينفعش يمشى لأنها حاجة مهمة جدا بالنسبة له.. وكمان عشان يمشى فى طريق مستقيم وما يعضش صاحبه».. يؤكد الرجل الهرم -الذى هرب من حرارة الشمس داخل محله المرشوش بالجير- أن الحصان أو الحمار قلما يسير بدون «النضارة»: «مصر للأسف محتاجة نضارة عشان تمشى فى طريق مستقيم.. نفسى بقى البلد تقلع النضارة السودا اللى لابساها وعامياها».. اللجام تحتاجه مصر أيضاً وفقاً للرجل البدين: «محتاجين نلجم بلدنا قبل ما السفينة تغرق بينا كلنا». كل مرشحى الرئاسة جالسون على كراسيهم ينتظرون أصوات الناخبين.. هكذا وصف «عم جمال» الانتخابات الرئاسية: «ياريت واحد فيهم كان جه وشاف إحنا عايشين إزاى.. أتحداهم لو عرفوا يعيشوا يوم واحد فى منطقتنا.. كل مرشح مبرطع فى مكانه ومستنى أصواتنا.. طب وعلى إيه.. اللى رايده ربنا هيكون».