فى القرن الرابع قبل الميلاد، كان هناك «أرسطو» مواطن يدرس الفلسفة والعلوم والرياضيات والموسيقى. واعتبروه المعلم الأول للفلسفة، أى حب الحكمة والبحث عنها. كتب هذا المواطن كتاباً اسمه (The Art of Rhetoric) أى فن الإقناع باستخدام اللغة. وكعادته يدرس المحيطين به ويسجل ملاحظاته عليهم ويصل إلى استنتاجات عامة فيما يعرف بالمنهج الاستقرائى (يعنى يقرأ الواقع ثم يطلق الأحكام العامة عليه). المهم أن هذا المواطن كان يعتقد أن أكثر الحجج إقناعاً هى المرتبطة بالLogos: Appealing to reason أى بمخاطبة العقل عبر الحجج البرهانية الفلسفية والعلمية، ومع ذلك هناك نمطان آخران من الحجج يرتبطان بPathos: Appealing to Emotion أى مخاطبة العواطف أو الغرائز وكل ما يرتبط باللاوعى الوجدانى عند البشر. وهناك نوع ثالث يرتبط بمهارة الشخص المتحدث نفسه أو الEthos Appealing to character وما يملكه من قدرة على توظيف خصائصه الشخصية وخبراته وحججه العقلية وقدرته على مخاطبة العواطف والغرائز فى تحقيق إقناع الآخرين به وبما يقول، يعنى طغيان الشخصية هو كلمة السر. إذن لو كان لى أن ألخص هذا الجزء من كتاب المواطن الشقيق أرسطو لقلت إنه يقول إن القدرة على الإقناع هى عملية مركبة تعتمد إما على البرهان العقلى، أو الوجدان العاطفى، أو الطغيان الشخصى للمتحدث. وظن «أرسطو» أن أرقى أنواع التفكير ومن ثم الإقناع هو القائم على البرهان العقلى، فبغض النظر عن المشاعر، وبغض النظر عن الشخص المتحدث هناك حقائق راسخة يقبلها العقل البشرى ويتصرف على أساسها. وضرب مثلاً بالرياضيات حيث 5+5 = 10 بغض النظر عن غضبك أو فرحك، بغض النظر عن حبك أو كرهك لمدرس الرياضيات. لكن تأثر أحدنا بشخص ما يجعلنا نعتقد أنه لن ينطق إلا صواباً حتى لو أخطأ، ونعيد تفكيك ما قال لنثبت صحة منطقه، وهكذا. قام مواطن اسمه أدلر، وهو عالم نفس، بدراسة هذا الكلام على البشر، فوجد أن أغلب غير المتعلمين يتأثرون بالطغيان الشخصى ثم الوجدان العاطفى ثم البرهان العقلى. والعكس عند المتعلمين تعليماً راقياً حيث يهتمون أكثر بالبرهان العقلى ويتراجع الوجدان العاطفى، لذا نجدنا ننساق بكثافة وبلا تدبر لشعارات براقة وكلمات كبيرة دون أن نقوم بال360 بتاعنا، أى دون أن نقلب المواضيع من كل جوانبه. ننفعل وننفعل بشدة، وبعد أن يبرد الانفعال ننسى الموضوع ونبدأ بالانشغال بموضوع آخر ننفعل معه، وننفعل معه بشدة، وبعد أن يبرد الانفعال وكأن شيئاً لم يحدث، نبدأ بالانشغال بموضوع آخر. أراهن حضراتكم أن أهم موضوع فى مصر مداه الزمنى عادة لا يزيد على 48 ساعة وبعدها يتراجع الزخم المرتبط به ونلهث جميعاً وراء خبر أو مشكلة أخرى. لماذا؟ لأننا نهتم بما هو فى إطار الوجدان، وليس بما هو فى إطار البرهان، لو كنا أكثر عقلانية لكان الانفعال الوجدانى مقدمة، وليس بديلاً عن التفكير العقلانى. ولكن المعضلة أننا أحياناً ونحن فى قمة الانفعال نتخذ قرارات مصيرية تحتاج لعقلانية شديدة نفتقدها. قضية سد إثيوبيا ظهرت على مسرح حياتنا بسرعة شديدة، ثم تراجع الاهتمام بها، طيب ما المشكلة الآن؟ وهل تم علاجها؟ وهل فكرنا فى البدائل المختلفة المتاحة أمامنا؟ هل عرفنا كيف نحافظ على حصتنا من مياه النيل دون أن ننال من حق الدول المتشاطئة من الاستفادة منه؟ هل عم عيد البواب توقف عن نظرية «رش المياه أمام العمارة طراوة»؟ هل عرفنا كيف سنتحول من الرى بالغمر، بما له من تأثير سلبى على التربة وليس فقط على هدر المياه، إلى أى شكل آخر من أشكال الرى الحديث؟ ولا أى حاجة. علشان كده المدارس فى الدول المتقدمة بتحاول ترفع عند المواطنين الحس النقدى والتفكير المنطقى علشان لما يناقشوا موضوع يناقشوه بعقلانية. المدارس فى الدول المتقدمة تعلم طلابها الكلام ده علشان ما يبقوش زينا. ويشاوروا على العرب ويقولوا: لو ما ذاكرتوش وما فهمتوش الكلام ده، هتبقوا زى عمو، ويشاورا على واحد شبهنا كده ماسك مولوتوف فى إيد وسيجارة فى إيد، ولابس «تى شيرت» عليه شتائم.