اسمه الشيخ عمر، وجده الكبير حنا، القس الذى دخل الإسلام أيام تحول المسيحيين إليه بغزارة فى العصر الفاطمى، وهو ينحدر من سلالة رجل عاصر سيدنا موسى اسمه يوشع، الذى يمتد نسبه إلى رع أحد كهنة معبد آمون. هكذا تمضى مصر، وثيقة من جلد رقيق، الإنجيل مكتوب فيها فوق هيرودت وفوقهما القرآن، وتحت الجميع لا تزال الكتابة القديمة تقرأ بوضوح وجلاء، وبالتالى فإن محاولة فهمها وحكمها يجب أن تراعى هذا وإلا أخفقت. وعلاقة المصريين بالدين قوية، لاسيما أنها تسمح فى كل وقت ومكان له بأن يضع بصمته على الحياة الخاصة والعامة. فالشعور الدينى هو من أهم الخصائص التى جعلت المصرى مصريا، فمصر هى أقدم بلد فى الدنيا بأسرها امتلاء بذلك الشعور الدينى، ومن طول المدة التى تشرب فيها المصرى وجدانه الدينى أصبح ذلك الوجدان جزءا من كيانه، يلازمه ملازمة اللون الأسمر لجلده. وما أورثه الدين فى نفوس المصريين وعقولهم أغزر وأعمق من أن تحيط به دراسات ميدانية عديدة، تتوزع على حقول معرفية شتى، ويزداد الأمر تعقيدا حال الولوج إلى الظاهرة السياسية، بتعقيداتها وحمولاتها المتنوعة، خاصة إن كان التناول منصبا على الثقافة السياسية. فإذا كانت مصر «الجغرافية» هبة النيل، فمصر «التاريخية» تعد فى الغالب الأعم هبة الدين، ومن النيل والدين وجد المجتمع ما اقتات عليه على مر القرون. فالدين شكل برقائقه المتتابعة فى معابد الفراعنة وكنائس المسيحيين ومساجد المسلمين، مكونا رئيسيا للشخصية المصرية، فبدت مصر وثيقة من جلد رقيق، الإنجيل فيها مكتوب على ما خطه هيرودت، وفوق ذلك القرآن، وتحت الجميع لا تزال الكتابة القديمة تقرأ بوضوح وجلاء. والدين كان دافع الفراعنة إلى التفوق العلمى، فى بحثهم عن الخلود بعد الموت، وهو الذى مثل جوهر الصراع بين الرومان والمسيحيين الشرقيين، والإسلام منح مصر هويتها العربية، منذ ما يقرب من أربعة عشر قرنا، والدفاع عنه فى مواجهة الصليبيين والتتار شكل الملمح الرئيسى لتاريخ مصر فى العصر الوسيط. وهذا التراكم متعدد الأبعاد جعل الشخصية المصرية متدينة بطبعها، ولذا لا عجب من أن عدد الجمعيات الخيرية بمصر هو الأكبر فى العالم أجمع. هنا يصبح الحديث عن بعد دينى للثقافة السياسية المصرية مبررا، ربما أكثر من أى مكان على سطح الأرض، خاصة مع ظاهرة «الإحيائية الإسلامية»، التى نقلت التصور الدينى من رؤية إصلاحية نظرية لدى محمد عبده ورشيد رضا إلى حركة سياسية فى الواقع المعيش على يد حسن البنا، لتفرض مع موجة العنف التى لطمت الحياة السياسية المصرية فى أواخر القرن المنصرم تساؤلا حول إمكانية تفنيد المقولات التى سادت لعقود فى الأدبيات المصرية حول دور الدين فى نشر «السلبية السياسية»، أو «الخنوع»، إلى جانب ما تردد حول «الفرعونية السياسية» و«سمات المجتمع النهرى».