«كان النشيد الوطنى يملأ المذياع منهياً برامج المساء، وكانت الأضواء تنطفئ، والطرقات تلبس الجوارب السوداء، وكان وجهه النبيل مصحفاً عليه يقسم الجياع». هكذا قبل ثلاثين عاماً بالتمام والكمال رحل أمل دنقل «وتناقلوا النبأ الأليم على بريد الشمس فى كل المدينة: قُتل القمر، شهدوه مصلوباً تدلى رأسه فوق الشجر»، كان الجسد الذى أنهكه المرض الخبيث يئن تحت وطأة العمليات الكثيرة التى أُجريت على مدار ثلاث سنوات فى محاولة لإنقاذ الشاعر الجنوبى من النهاية التى تنتظره، وكانت الزوجة الشابة عبلة الروينى تتمسك بالأمل، لكنه كان عازماً على الرحيل «أعرف أن العالم فى قلبى مات، لكنى حين يكف المذياع وتنغلق الحجرات أنبش قلبى، أخرج هذا الجسد الشمعى، وأسجيه فوق سرير الآلام، فاتح فمه، أسقيه نبيذ الرغبة، فلعل شعاعاً ينبض فى الأطراف الباردة الصلبة، لكن تتفتت بشرته فى كفى، لا يتبقى منه سوى جمجمة وعظام». هل هى مصادفة أن تتوافق الذكرى الثلاثون لرحيل أمل دنقل مع حادث خطف سبعة من جنود الجيش فى سيناء؟ هو الذى كتب قديماً يقول على لسان أحد الجنود: «وها أنا فى ساعة أن تخاذل الكماة والرماة والفرسان، دعيت للطعان، أنا الذى ما ذقت لحم الضأن، أنا الذى لا حول لى أو شأن، أنا الذى أقصيت عن مجلس الفتيان، أُدعى إلى الموت ولم أُدع إلى المجالسة»، هل هى مصادفة أن تتوافق ذكراه مع ما سبق أن حذر منه فى إحدى قصائده «قلت لكم مراراً، إن الطوابير التى تمر، فى استعراض عيد الفطر والجلاء، فتهتف النساء فى النوافذ انبهاراً، لا تصنع انتصاراً»؟ هو الجنوبى ابن محافظة قنا، المولود فى عام 1940 لأب أزهرى حصل على شهادة العالمية فى نفس يوم مولد الطفل فأطلق عليه «أمل» تفاؤلاً به، وكالأمل شب الطفل وكبر وتعلم وترك الدراسة بكلية الآداب، ليعمل قبل أن يرحل مع صديقيه عبدالرحمن الأبنودى ويحيى الطاهر عبدالله إلى القاهرة ليبدأ الثلاثة مشروعاتهم الأدبية، فى البداية تكشر لهم المدينة عن أنياب غليظة، يتسكعون ويتصعلكون ثم تلمع الأسماء، شيئاً فشيئاً يبرز كل واحد منهم فى مجاله، يواصل «أمل» الصعود متلمساً الطريق قبل أن تصفعه هزيمة يونيو 1967 فيتفجر بداخله الطوفان الحبيس هادراً مزمجراً. يكتب «دنقل» عن الهزيمة فى عام 1967، وموت «عبدالناصر» فى عام 1970، ومظاهرات الطلبة فى عام 1972، واتفاقية فك الاشتباك الأولى فى عام 1974، وأوضاع البلاد فى زمن الانفتاح، وتجربته مع المرض الخبيث فى حجرة رقم 8 بمعهد الأورام، التى أمضى بها أكثر من عام ونصف العام طريح الفراش، يضع دواوينه الشعرية: «مقتل القمر»، «البكاء بين يدى زرقاء اليمامة»، «تعليق على ما حدث»، «العهد الآتى»، «أوراق الغرفة 8»، فيتحول كل ما يكتبه إلى «مانيفستو» للثائرين والمتمردين فى طول البلاد وعرضها حتى بعد مرور 30 عاماً على رحيله.