الوساوس القهرية أمر واقع لا ريب فيه، تصيب الأفراد وتضرب المجتمعات وتسيطر على أدمغة العباد وتعبث بمقدرات البلاد. لكن حين يزيد الأمر على الحد وتتفاقم الأوضاع بعيداً عن العقل، ينبغى التوقف قليلاً للتدبر وإعادة دفة التحكم. حكم الإخوان المصريين نحو عام، وفى أقوال أخرى حكموا على مدار ما يزيد على أربعة عقود منذ أعلنوا سيطرتهم على مجال الخدمات وأقاموا هيمنتهم فى التعليم والصحة ومجالات حيوية عدة، وذلك فيما يمكن تسميته ب«الدولة الموازية». وحالياً مر ما يقرب من أربع سنوات منذ وقع الحدث الأكبر والأبرز فى حياة المصريين، ألا وهو انكشاف الوجه الحقيقى لتجار الدين، وفضح حقيقة فخفخينا السياسة بالدين. ورغم ذلك ما زال البعض يجرنا إلى دوامات البكاء على اللبن المسكوب ودهاليز الاكتفاء بتصويب نيران الكلام وتوجيه سهام الاتهامات إلى الجماعة وأذنابها، وكأن هذا هو شغل المصريين الشاغل وهمهم الضاغط وطوق نجاتهم الواحد. وعلى الرغم من أهمية تسليط الأضواء على مغبة الإسلام السياسى بين الحين والآخر، وفضح أفعال جماعات التدين المظهرى مع تنقيح الخطاب الدينى وتنقية الدين الإسلامى مما علق به من أتربة احتكار التفسير وتحجر التفكير وتكلس الاجتهاد (وهى المهمة المستعصية التى تقابل برفض واضح ومقاومة لا ريب فيها من قبل كثيرين)، إلا أن الحياة يجب أن تمضى بنا قبل أن تمضى علينا. فرصتنا الآنية ذهبية. والحالة الاقتصادية الصعبة تدفعنا دفعاً (لكننا نقاوم) كى نمضى قدماً لإنقاذ أنفسنا. والنظام العالمى الجديد منذ قدم الرئيس الأمريكى «ترامب» إلى البيت الأبيض يمنحنا فرصة نادرة لنلتفت إلى أنفسنا. وانغماس الإعلام الغربى فى غياهب الرئيس «ترامب» وقراراته المثيرة للجدل وإجراءاته التى تقلب الدنيا رأساً على عقب، يرد لنا جانباً من اعتبارنا الذى فُقد منذ انقلبت الإرادة الشعبية على حكم الإخوان. وبعدما كانت وسائل الإعلام الغربية، لا سيما البريطانية والأمريكية، لا شغل لها أو شاغل سوى الدق على رؤوسنا وتشويه ثورتنا وإرادتنا فى التخلص من الإخوان والزن على الودان لجعل الأمر يبدو وكأنه انقلاب عسكرى جرى رغماً عن إرادة الشعب، تحولت اليوم صوب «ترامب» وإعادة تشكيل العالم وقواه وتحزباته وسياساته. نظرة سريعة إلى ما يقول الإعلام الغربى عن مصر هذه الآونة، تشير إلى أربع فئات لا خامس لها؛ الأولى أخبار الاكتشافات الأثرية أينما وكيفما حلت. والثانية أنباء مباريات كرة القدم وإنجازات المنتخب المصرى فى كأس الأمم الأفريقية. والثالثة أخبار الاقتصاد، وبالمناسبة يلاحظ تغير النبرة تماماً منذ تفعيل اتفاق قرض صندوق النقد الدولى، حيث خفت حدة الهبد وتقلصت نبرة الرزع. والرابعة تتراوح بين الحين والآخر بين تطورات قضية ريجينى، وعودة / لا عودة السياحة الروسية إلى مصر، وإعادة تدوير بيانات ممنهجة عن التضييق على منظمات المجتمع المدنى والجماعات الحقوقية إلخ، وهذا شر لا بد منه. الخروج مما نحن فيه لن يتم على أيدى «الخبير السيكوباتى» الذى يصول ويجول على الفضائيات باثّاً آراءه الانفعالية ومعيداً تدوير مواقف سمعها من آخرين أو أعاد هيكلتها عبر السنين. كما لن تُكتب لنا النجاة عبر تسريبات قبيحة سخيفة لا تدين إلا من يقف خلفها أو يمررها لمن يبثها. ولن تنصلح أحوالنا بقعدات القهاوى وتجمعات النواصى حيث سب ولعن فى الحكومة تارة، وفى القدر تارة، وفى الكون والمعمورة والمجرة تارة. ولن تستقيم أمورنا بالانحباس فى دوائر مغلقة، حيث محاولات عقيمة لتحديد الجانى، هل هو نظام مبارك؟ أم انفتاح السادات؟ أم اشتراكية ناصر؟ أم تسلل الإخوان؟ اللحظة التاريخية الآنية تحتم علينا أن نقصر الهرى على سويعات قليلة مع توسيع قاعدة العمل الحقيقى. وبهذه المناسبة تجدر الإشارة إلى أن نوعية الأعمال التى باتت لها اليد العليا فى مصر ليست عملاً بالمعنى المعروف. فليس الافتئات على الآخرين وفرض إتاوات عليهم لإيقاف سياراتهم، أو تقاضى رشاوى نظير عدم سحب رخصهم، أو ادعاء تعطل عداد السيارة الأجرة، أو فرض رسوم غير قانونية نظير تقديم خدمات قانونية عملاً، وليس قطاع الأعمال المتضخم والمقدر بالمليارات والقائم على تحصيل نسبة من خدمة بيع عقار أو تأجيره، أو بيع هاتف محمول قديم أو مسروق، أو احتلال رصيف الشارع وبيع منتجات، إلخ دون تسديد ضرائب وبعيداً عن الدولة عملاً. وليست الدروس الخصوصية وغيرها من الخدمات غير القانونية عملاً. المقصود بالعمل هنا هو العمل القانونى الذى يدر دخلاً قانونياً على صاحبه وعلى الدولة ما يؤدى إلى تقديم خدمات فى مقابل دفع الضرائب. وبالطبع فإن العمل المنشود هنا يحتاج تضافر جهود الحكومة والقطاع الخاص والمواطنين حيث خطط التدريب والتشغيل فى مشروعات إنتاجية حقيقية. التغنى بموارد مصر البشرية والطبيعية ليلاً ونهاراً لن يجدى نفعاً. والدق على أوتار طاقة مصر الشبابية فى كل فعالية ومناسبة لن ينتج ثمراً. وإلهاء الشعب فى انتصارات كروية مؤقتة أو احتقانات سياسية مفخخة، أو بكاءات على ألبان جماعات الإسلام السياسى المسكوبة لن يحركنا إلى الأمام أو حتى يبقينا فى مواقعنا، بل سيدفعنا دفعاً نحو المزيد من الهاوية. السنوات الست الماضية جعلت لكل منا وساوس قهرية متفاوتة المحتوى. منها ما يتعلق بالسياسة وساحتها، ومنها ما له علاقة بالدين والتدين ومنصاتهما، ومنها ما ينصب حول الاقتصاد بمستوياته المختلفة وهذا هو الأعم والأشمل. اقتصادنا رفعتنا أو خيبتنا، ووسواسنا القهرى الذى يوحدنا ينبغى أن يكون اقتصادى الهوى.