جاء الإسلام لإقامة دين وليس لإقامة دولة، فالدولة تلعب فيها السياسة (فن الممكن) الدور الرئيسى فى إدارة شئون البلاد والعباد، وارتباطها بأولويات تفرضها ظروف المرحلة مع رعيتها من ناحية ومع الدول المختلفة من ناحيه أخرى، مما يضع الدين فى حرج مع المتغيرات وهو الثابت الفكر، الراسخ الأركان، وكان هذا واضحاً فى التكليف الإلهى لصاحب الدعوة المحمدية فى الآية «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ»، والآية «لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ الله يَهْدِى مَنْ يَشَاءُ»، ولو أراد الله إقامة أمة واحدة بنظام دينى وسياسى واحد وقلوب تتجه إلى قبلة واحدة لأقامها «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ»، وهذا مطلب أساسى من مطالب الحياة، وتوجيه إلهى واضح وهو استمرار الأديان السماوية لإثراء الحياة والتنافس الشريف بين أصحاب الديانات المختلفة سعياً إلى الفضيلة حتى قيام الساعة.. الآية «لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً»: والآية «ثُمَّ جَعَلَنَاكُمْ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأمر». والشريعة عند العرب قديماً هى بداية استهلال الماء والمقصود بها المنهج والوسيلة، فشريعة اليهودية «الحق» وشريعة المسيحية «المحبة» وشريعة الإسلام «الرحمة». يقول ربنا: «وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا رَحْمَة لِلْعَالَمِينَ»، ويقول ربنا أيضاً: «سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ». ويقول الرسول (صلى الله عليه وسلم) عن نفسه «أنا نبىُّ الرحمة»، فإذا قلنا تطبيق الشريعة نقصد تطبيق مبدأ الرحمة فى كل معاملاتنا، هذا المعنى تغير مع الأيام والأحداث وأصبح المعنى الذى نزلت فيه الآية لدى العرب شيئاً هو ما قصدناه سابقاً والمعنى الاصطلاحى شيئاً آخر وهو مجموعة الأحكام والحدود المحددة بالقرآن واتفقت معها السنة الشريفة، فإذا قارنّا آيات الرحمة والتعاطف والحث على مكارم الأخلاق والفضل بين الناس وبين آيات الأحكام والحدود فهى أضعاف مضاعفة، ولقد أغفلناها فى معاملاتنا الحياتية، وإصرار البعض على تطبيق الحدود على أنها نجاة المسلمين من الفقر والجوع، وردعاً للخطايا أمر يجعل ترتيب الأولويات مفقوداً وغير محدد المعالم ومن الأفضل أن يسبقه الحث على مكارم الأخلاق ودعوة الناس إلى العمل والجد وتحصيل العلم حتى لا نبدو وكأننا مولعون بتطبيق العقوبة أكثر من حرصنا على تقويم الرعية وإصلاحها، فلم يرد على سبيل الحصر عن الحدود فى القرآن سوى أربعه حدود فقط وهى «حد قطع يد السارق» وبشروط تعجيزية، «وحد قذف المحصنات» وهو ثمانون جلدة، «وحد الزنا» وهو مائة جلدة بأربعة شهود، «وحد الحرابة» وهو قطع الطرق وقتل الآمنين، وهو قطع الأيدى والأرجل من خلاف ثم الصلب أو النفى خارج حدود الوطن، ولم يُنص فى القرآن على عقوبة لشارب الخمر وتركها عقوبة تعزيرية يحددها ولى الأمر، ولم ينص أيضاً على عقوبة دنيوية للمرتد عن الإسلام وتركها الله لذاته يوم القيامة. وفى أمور التجارة والمعاملات لدينا آيتان فى القرآن؛ الأولى «وَأَحَلَّ الله الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا»، ولم يصل فقهاؤنا إلى تحديد جامع مانع لتعريف التجارة وتعريف الربا والفصل بينهما حتى يستطيع الشخص العادى حين يطبق القاعدة أن يفهم ما يؤديه، أرباً أم تجارة؟ وأكبر دليل على ذلك هو فائدة قرض صندوق النقد الدولى فمن أفتى بأنها ربا، هو من أفتى بأنها مصروفات إدارية، وكأن الربا محدد بقيمة سعر الفائدة، فكان قرار رفضه قراراً سياسياً وقبوله قراراً سياسياً أيضاً. هذا هو حرج تعامل الدين مع السياسة. ونستكمل الأسبوع القادم.