بهيئته الرثة، وملابسه المهرولة يقف عم علي "بتاع المراجيح"، يدفع بيده أرجوحته ويتركها في الهواء لتتدلى بقوة بضحكات الصغار المختلطة بأصوات أبواق العربات، وتكدس المارة. بلغ الأربعين من عمره، ويبدو من تجاعيد وثنيات وجهه الثابتة أنه يكبر عمره بكثير، خشونة يديه تدل على شقاء عيشه، فمنذ نعومة أظافره وهو يعمل "مبيض محارة". "ورثت الشغلانة من أبويا"، لم تعد الأموال القليلة التي يجلبها تكفيه، فأخذ من المراجيح وسيلة لتزيد من دخله وتروح عن نفس الأطفال الذين تفاوتت أطوالهم وأعمارهم من باحثي السعادة من دفعة الأرجوحة من يد عم علي التي تطيح بهم في الهواء. وفي شارع صغير من شوارع العمرانية الغربية بالجيزة، روى عم علي، ل"الوطن"، رحلته مع الملاهي المتنقلة في الأحياء الشعبية للقاهرة. ضيق العيش هو ما دفعه إلى أن يبحث عن مهنة أخرى، ليجلب قوته هو وأولاده الثلاثة، لم يمتهن تلك المهنة منذ زمن بعيد فمن حوالي عامين قرر أن يصبح عم علي "بتاع المراجيح"، ففي الأعياد والمناسبات يخرج في الصباح ويؤجر تلك الملاهي المتنقلة من "المعلمة صباح" صاحبة "المراجيح"، ويقف ليلتقط رزقه من بهجة الأطفال الذين لم يختاروا تلك الملاهي العتيقة لتكون نزهتهم في العيد، فكل مناسبة لها مكانها الخاص، "ففي أعياد المسلمين أقف أمام الجامع، وفي أعياد المسيحين أقف أمام الكنيسة"، ويتنقل بأرجوحته في أحياء القاهرة الشعبية البسيطة ما بين العمرانية وبولاق وإمبابة. يأتي العيد بالفرحة والبهجة على الأنفس وعلى تلك الرجل الذي تصلبت ضحكته من خشونة الحياة، بالرزق الحلال الذي يعتبره خير من كنوز الدنيا الزائفة، "بأكل ولادي بالحلال علشان ربنا يباركلي فيهم"، فبدلا من أن يعمل بتجارة المخدرات، أو بالسرقة أو البلطجة عمل كعامل ملاهي متنقلة، في المناسبات ورضي بالقليل ليطعم أولاده، ويعلمهم بالمدارس ليصبحوا أفضل حالا منه، بعشرات الجنيهات تعب طيلة النهار يزود من دخلة غير المنتظم من عمله كمبيض محارة. وفي أوقات الدراسة يأخذ عم علي أرجوحته ويقف بها أمام المدارس، لينتظر من الأطفال من يقرر أن يزيل شقاء اليوم الدراسي بدقائق معدودة يختلسها من اليوم، ليدخل على قلبه السرور وعلى جيب عم علي القليل من النقود والكثير من الرضا، "بنسترزق من فرحة العيال"، يعتبر نفسه صديق التلاميذ الذين يعتبروه الملاذ الوحيد من الحياه الموحشة الخالية من الترفيه، يقف ساعات النهار ليدخل جيبه عشرة جنيهات، ففي أيام الدراسة يقف حتى الثاثة أو الرابعة عصرا حتى ينصرف التلاميذ من المدارس، على عكس أيام الأعياد، الذي يظل فيها طيلة ساعات النهار وحتى الحادية عشر مساء، ينتظر من يقبل عليه ليروح عن أطفاله. يخرج في الثامنة صباحا متوكلا على الله، دون أن يلقي بالا لما سوف يتعرض له من مشاكل وبلطجة التي أصبحت هي الوضع الطبيعي في جميع الشوارع بعد الثورة، علي حد قوله، فقبل الثورة كان يوجد تصاريح ملاهي متحركة، وكانت البلدية تطاردهم من الحين للأخر وتقوم بتكسير الملاهي، "بعد الثورة كل اللي عايز حاجة بيعملها"، فانتشرت عصابات البلطجية في كل مكان وباتوا يطاردون عم علي ورفاقه من زملاء المهنه، ليفرضوا عليهم الإتاوة رغما عنهم فمنهم من يرضخ، ومنهم من يحافظ علي قوته "يا واكل قوتي يا ناوي على موتي"، هكذا قال الرجل الأربعيني الذي أكد "محدش يقدر يبلطج عليا". يصطحب ابنته الصغيرة التي لم تبلغ من العمر ثلاث سنوات، في الأعياد ليروح عنها ويشعرها ببهجة العيد وزحمة الأطفال المتوافدين على الملاهي البسيطة القديمة التي تبلغ من العمر عشرات السنوات، لم يستغل حاجة الأطفال إلى البهجة ويزود من ثمن ركوب الملاهي كما يفعل الكثير في هذه الأوقات، فجنية واحد هو ثمن ركوب الطفل لدقائق معدودة قد تفرق في ابتسامة طفل، وقد لا تفرق في حياة عم علي الكثير.