صدق من قال «لو عرفتم الغيب لاخترتم الواقع».. كنت أولول وأكرر على مصيبة تشويه التاريخ.. وأقول إن ما حدث بعد 1952 جريمة فى حق الوطن، فقد تحوّل الوطنيون إلى خونة والمتواضعون إلى أبطال.. وبعد قراءة التاريخ بتوسع ومن مصادر غير خاضعة لتغيُّرات السياسة اتضح أننا نلوّث أيام الأجداد والآباء وأيامنا ثم أيام أبنائنا وأحفادنا، ونخرج بخلاصة أن حكام مصر منذ «محمد على» وحتى اليوم، مجموعة من الفاسدين والسذج والخونة وأعوان الاستعمار واللصوص، بينما نحن شعب من الملائكة، يا سبحان الله.. ثم نصرخ فى سذاجة بأن الشباب فقد الانتماء وذهب إلى إسرائيل، وأن الحوامل يسافرن أفواجاً للوضع فى أمريكا ليحصل الأبناء على الجنسية الأمريكية، وهى جواز المرور إلى الجنة الموعودة.. بعد يوليو تم حذف كل تاريخ الفترة الليبرالية بداية من دستور 1923 وثورة 1919 وسعد زغلول، حتى حرب فلسطين والقضية المؤلفة التى تُدعى «الأسلحة الفاسدة».. وخرجنا بنتيجة واحدة غير قابلة للنقاش بأن الأحزاب فاسدة وعميلة للملك، وهى والملك عملاء للإنجليز المحتلين.. ولم يعرف جيلنا شخصاً اسمه النحاس باشا ولا النقراشى باشا ولا أحمد باشا ماهر ولا مكرم عبيد ولا صبرى أبوعلم ولا غيرهم من نجوم العمل الوطنى السياسى النظيف، ولم نعلم شيئاً عن وزارات تسقط وأخرى تقوم، ولا عن تداول سلطة ولا عن دستور كان يُحترم إلى حد التقديس.. وعشنا فترة يوليو ونحن فرحين بالشعارات والهتافات والعهد الجديد، عهد الحرية والعزة.. وكنا نغنى مع محمد قنديل «ع الدوار كنا عبيد وبقينا أحرار» حتى سقطت سيناء فى 1967 وسقطنا معها ومعنا الحرية والعزة والكرامة، وبدأنا نعى شيئاً فشيئاً، أن هناك شيئاً مفقوداً، لأنه غيَّر المعقول أن العبيد عندما يتحررون ويتعلمون العزة والكرامة تسقط مصر فى براثن الاحتلال اليهودى ويدمّر الجيش ويموت الشباب حرقى وعطشى ومدفونين أحياء.. وأخذنا نبحث عن الحقائق ولكننا تماسكنا حتى نسترد الأرض المحتلة.. تماسكنا خلف حكام اتهمناهم بالتقصير وعدم صواب الرؤية.. وجاء أكتوبر وأزاح عن صدورنا كل الهموم ورفعنا رؤوسنا فخراً بالجيش المصرى العظيم، ومات «السادات» مقتولاً يوم عيده، فقد رأت أمريكا أنه تضخم زيادة عن اللزوم، وجاء وقته لكى يصمت.. وتسلم «مبارك» منه الراية وجاهد فى سبيل استكمال تحرير سيناء وذهبنا إلى المحاكم الدولية سنوات من أجل كيلومتر مربع يُدعى «طابا» حتى أخذناها، وجاء العيد هذا العام منذ يومين والبطل المحارب الذى رفع العلم يرقد فى سجن طرة ويتولى أمر البلاد أعوان قتلة «السادات» ويذهب الفارون من السجون لوضع أكاليل الزهور على قبر الجندى المجهول، وهم الذين كانوا منذ شهور يجيشون الصعاليك لوزارة الدفاع لإسقاط المجلس العسكرى ومعهم شراذم من المغيبين يصرخون «يسقط حكم العسكر».. إلى هنا كنا نقول تشويه التاريخ ونكتب ويكتب د. يونان لبيب رزق، رحمه الله، سلسلة كتب فى قراءة جديدة واقعية للتاريخ بلا سياسة ولا أغراض، وما زلنا، وما زلت، إلى أن انتقلنا إلى مرحلة جديدة من «أهبلة التاريخ»، وعذراً إن لم أجد مصطلحاً يعبر بدقة عما يجرى وما يقال.. وإحقاقاً للحق فقد بدأ الأستاذ «هيكل» سامحه الله، المشوار عندما قال إن «السادات» قتل «عبدالناصر» بفنجان قهوة، وإن «مبارك» قتل «السادات» واتفق مع الجهاديين وجلس فى المنصة كتفه بكتف «السادات» وأخذ يغمز بعينه للأخ البطل «الإسلامبولى» الذى هبط من العربة شاهراً السلاح الآلى ولا سحر ولا شعوذة.. ثم أخذ يُلاغى الحكّام الجدد والثوار الجدد بأن الضربة الجوية فى أكتوبر كانت استعراضاً وفنتازيا أعياد، وأن الأهداف التى كانت محدّدة للضرب اثنان، مافيش غيرهم، وغالباً كانوا كشك سجاير وعربية بطيخ.. ثم أطلق الصيحة الشهيرة بعد تنحى «مبارك» بأنه يشكل بؤرة استفزازة من شرم الشيخ يحرك منها ما يحدث من فتن فى الشارع المصرى، حتى نبّه الأشاوس الجدد إلى ضرورة محاكمة «مبارك»، وكتّر ألف خيره الذى أغرقنا وأغرق الحقائق والتاريخ والبلد.. واستمراراً لمشروع «أهبلة التاريخ» بدأت تصريحات السيد ابن السيد الرئيس المنتخب، بأن قال حقيقة تاريخية مذهلة، لأننا ناس «حقودين» ونشوّه التاريخ.. قال لا فض فوه ولا فو السيد والده: إن الضربة الجوية وُجهت أساساً لضرب حماس وليس لضرب سيناء وإسرائيل المحتلة، كما يقول المخرّفون.. ولا أعرف كيف مع قربه الشديد من «مشعل» و«هنية» لم يقولوا له إن «حماس» حركة المقاومة الإسلامية تأسست عام 1987، وأنهم احتفلوا بمرور 25 عاماً على تأسيسها عام 2012، وهل عندما ضُربت «حماس» خرجت إسرائيل لوحدها كده من سيناء وهى بتعيّط وتقول يا «امّة»؟ ضربوا حماس وهيضربونى، (ملحوظة: اللى عنده ضغط مرتفع ما يكملش المقال المستفز ده)، وقال السيد «أبوإسماعين» إن «عبدالناصر» انفرد بقرار تأميم قناة السويس ولم يبلغ الجيش، وخلاص، وهى كده اتأممت لوحدها عادى.. وإن مصر سُحقت فى عام 1956، ولم يذكر لنا كيف قامت من جديد وسمحت للست والدته إنها تخلفه وتجعله زعيم مثل الفك المفترس.. اللى بعدها.. يقول سعد الشاطر إن خيرت الشاطر صاحب فكرة العبور واجتياح خط بارليف، وهو بالأمارة اللى اشترى المضخات المائية بفلوسه.. يا أخ «سعد» ملحوظة صغيرة العبور كان عام 1973 و«الشاطر جداً» لو بلغ من العمر الآن خمسة وخمسين عاماً سيكون فى عامه الرابع عشر يعنى فى تانية إعدادى.. لو تحب نأخر لك الحرب ونخليها عام 1993 مافيش أى مانع، التاريخ تاريخكم والبلد بلدكم.. أما ختام «الأهبلة» فهى فى حديث رجل «بدقن» كثيفة وطويلة قال: إن الرئيس «مرسى» صاحب الفضل فى نصر أكتوبر المجيد، حيث إنه كان يعمل حينها فى المخابرات المصرية وذهب إلى إسرائيل واستطاع «المحنك» أن يعرف عدد الجيش وأسلحته وبلّغ الميعاد المناسب ل«السادات»، وقال له 6 أكتوبر ساعة الصفر.. وهذا معناه أن الرئيس المحنك عمل بالمخابرات، وهو فى السادسة عشرة من عمره، وقعد فى إسرائيل من سن السادسة عشرة وحتى سن الثانية والعشرين يوم العبور فى 1973، ولكن لم يذكر محسن ممتاز وأدون كوهين وعزرا واستر بولانسكى.. لذلك، ولكل هذه «الأهبلة» المكثفة، أنصح كل رئيس قادم بهذا الوطن التعيس أن يدوّن تاريخه بإيده بالوثائق والمستندات والتصوير الفوتوغرافى والفيديو، حتى أكل إيه فى الفطار والغداء والعشاء ويمضّى كل واحد موجود معاه فى الحدث على ورق ويبصّمه ويحلفه على المصحف أمام الكاميرات ويطلع اللى فى جيوبه ويعده أمام الكاميرات كل يوم ويقول لنا الساعة بكام ويصور لنا الفاتورة ومافيش مانع من عدد الملابس والبدل والملايات والشرابات ولا مؤاخذة الجزم قبل الرئاسة وبعدها.. وماينساش «الكوتونيل».. وقد تنبّه لذلك التخريب المتوقّع فى التاريخ «محمد على»، ولكنه كان تخريباً من الخواجات الإنجليز والفرنسيين والأمريكان الذين بدأوا يكتبون عنه فى مجلاتهم وكان محمد على يُحضر هذه المجلات ويترجمها ويقرأها وأخذوا يسفهون مصانعه وإنتاجها ويحاولون تلويث سمعته التى ضربت الآفاق ويقوّضون توسعاته التى قاربت عاصمة السلطان التركى شمالاً وأخذت الشام والجزيرة العربية والسودان وكريت وجزراً فى اليونان.. وقرر «محمد على» تدوين كل إصلاحاته ومشاريعه وأعماله فى الزراعة من ترع وجسور وقناطر وأهوسة وطواحين هواء وأسطول حربى وتجارى ومصانع وجيش بلغ قرابة نصف المليون جندى وضابط وبعثات وجامعات ومدارس وترسانة بحرية وغيره وغيره الكثير فى كتاب أطلق عليه «روضة العمران»، ورغم أن الكتاب نفسه مفقود، لكن هناك كثيراً من الرسائل التى تثبت تدوين أعمال محمد على الإصلاحية.. وهذا هو الحل الوحيد أمام تشويه التاريخ قديماً و«أهبلة» التاريخ حديثاً فى عصر النهضة الميمون.