وكأن سلطة الحكم الراهنة لا يكفيها إثارة الفتن من خلال تشجيع الميليشيات الشعبية، فإذا بها تصر على إبقاء مدخل آخر واسع للاحتراب الأهلى من خلال التغاضى عن اضطهاد بعض غلاة المتشددين المسلمين للإخوة المسيحيين وإفلات المجرمين من العقاب. بداية، مثل هذا الاضطهاد ليس من الإسلام فى شىء، فوق أنه يقوِّض أسس الدولة المدنية الحديثة التى يتعين أن تقوم على المواطنة المتساوية للجميع، والتى تتناقض كلية مع التمييز على أساس طائفى، ناهيك عن العنف الخسيس تجاه أحد مكونات الوطن. ومن مخاطر الانكفاء على الولاءات الأدنى من المواطنة المتساوية والتوظيف السياسى للدين أن تُغذى التعصب الأعمى الذى يقوم بدوره على الجهل بصحيح العقيدة أو التحريف المُغرض لها، ما يذكى «الفتن الطائفية» والاحتراب الأهلى. انظر فى فساد دعوة بعض غلاة السلفيين فى مصر مثلاً لتحريم مجرد تهنئة الإخوة المسيحيين بأعيادهم، «إلا بغرض الهداية»، وفى هذا عنف لفظى ممجوج. ولكن الأمر يتعدى ذلك إلى ممارسة العنف، بجميع أشكاله المادية والجسدية، ضد الإخوة المسيحيين. والمأساة أن المجرمين الذين يرتكبون هذه الجرائم يفلتون من العقاب فى تقويض سافر لدولة الحق والقانون. ولنبدأ من الجانب العقيدى؛ إن من يمارسون هذا العنف ليسوا مسلمين بحق، فالعنف ضد أهل الكتاب ليس من الإسلام فى شىء. فحبّ المسلمين للسيّد المسيح، ومن ثم لأتباعه، جزء من الإسلام العظيم. إذ يعظّم القرآن من شأن المسيح كنبى: «إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ» (آل عمران: 45). وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، يُكنّيه ب«أخى»، ويقول: «أنا أولى النّاس بعيسى ابن مريم». والأهم أن الإسلام يعقب المسيحية كمكوّن لدين الله الواحد. فعندما جاء رسول الله بالإسلام، جاء مصدّقاً للتّوراة والإنجيل، وحض على علاقة ودودة متميّزة مع الدّيانة المسيحيّة والمسيحيين، إذ يقول القرآن الكريم: «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ» (المائدة: 82). ولنقيم الحجة الآن على بشاعة العنف الممارس ضد إخواننا المسيحيين. فى واقعة حديثة مخزية، بدأت الأحداث المغذية للفتنة فى الواسطى عندما ترددت أنباء عن «غياب» فتاة مسلمة، وألقى أهل الفتاة وجموع من السلفيين اللوم على كنيسة مارجرجس زاعمين أن الكنيسة أثرت على الفتاة لاعتناق المسيحية، وهو ما أنكرته الكنيسة. واستجابة لهذا التهييج، طاف أهل البلد شوارعها مطالبين بعودة الفتاة وطرد أهل البلد المسيحيين. وفى هذه التظاهرات أطلقت هتافات شريرة من عينة: «خلّيهم يموتوا من الخوف»، «النهاردة بنتك، بكره مراتك»، «ترجع أو يروحوا»!. وهل مثل هؤلاء بمسلمين فى ضوء ما ذكرناه قبلاً عن الإسلام والمسيحية؟ وليعذرنى القارئ من ضيقى من هذه الأسطوانة المشروخة والممجوجة التى حولها غلاة السلفيين المتشددين إلى أهم معاركهم الحياتية والجهادية بأساليب أوشكت أن تمزق نسيج المجتمع المصرى أكثر من مرة. فماذا يضير الإسلام العظيم أن تتركه فتاة أو أكثر وتتحمل تبعتها حيث «لا تزر وازرة وزر أخرى»، وهى رخصة أحلها البارى عز وجل فمن يتجاسر على منع رخص الله؟. ولماذا هى دائماً فتاة أو امرأة؟ ما هذا الهوس الجنسى الكامن فى الخلفية؟ وقد تصاعد اضطهاد المسيحيين من المسلمين من أهل الواسطى بتوزيع منشورات فى الأسواق ومحطات وسائل النقل وخارج المحلات التى يملكها مسيحيون تدعو المسلمين إلى واجبهم الدينى بالتصدى لاختفاء الفتاة المزعوم. كما تفاقم العنف فى الفترة 19-25 مارس عندما قامت جماعات من السلفيين وأشياعهم بإجبار محلات المسيحيين على أن تغلق أبوابها، وطافوا فى دوريات للتأكد من إغلاقها ومارسوا العنف ضد من قاوم. وفى مواجهة كل هذه الانتهاكات لأمن المواطنين المسيحيين، لم تظهر أجهزة الأمن لتؤدى واجبها، بل امتنعت أقسام الشرطة عن تلقى البلاغات بحجة أن تسجيل البلاغات سيزيد من التوتر. وهكذا تُركت المشكلة لتستفحل. وفى 25 مارس هاجمت جموع من الرجال المسلمين كنيسة مارجرجس وأمطرتها بالحجارة والقذائف المشتعلة، ولحس الحظ تمكن من كانوا داخل المبنى من حصار النيران التى اشتعلت داخل الكنيسة. ورغم وصول قوات الأمن بعد اشتعال النيران، فقد أحرقت سيارة كاهن الكنيسة فى الليلة نفسها خارج منزله بينما تركت جميع السيارت حولها سالمة. ولم تلق قوات الأمن القبض على أحد ولم يفتح تحقيق فى الأحداث. وفى لقاء توفيقى لاحق سُمح للمسيحيين بفتح محالهم ما عدا يوم الجمعة، وأى اضطهاد! والجرائم الواردة أعلاه موثقة من مصادر قسم الشرق الأوسط فى منظمة العفو الدولية. وقد دعا هذا العدوان نائبة مدير الشرق الأوسط بالمنظمة إلى التصريح بأن الأقباط المسيحيين بمصر «يقاسون من التمييز فى القانون وفى الممارسة، ويقعون ضحايا للعدوان الطائفى بينما تشيح السلطات بوجهها بعيداً». ومن دون إخضاع المسئولين عن هذه الجرائم للمساءلة القانونية، على الرغم من الشكاوى المتكررة لمنظمات الدفاع عن حقوق الإنسان، فإن السلطات المصرية تعطى موافقة ضمنية على ارتكابها. وهذا يعنى بدوره استقواء غلاة المتشددين سلطة الإسلام السياسى الحاكمة، وتماديهم. ولا ننسى أن هذه جرائم لها تاريخ فى ظل الحكم التسلطى. فى عهد الطاغية المخلوع سُجِّل أكثر من 15 عدواناً باغياً على المسيحيين فى مصر لم تنته بالعقاب المناسب للمتسببين فيها، ولم يتحسن الحال تحت الحكم العسكرى. وخلال هذا العام 2013 تكررت حوادث الاعتداء على الكنائس والمبانى الملحقة بها فى أسوان والفيوم وبنى سويف والقاهرة ما يجعل منها ظاهرة إجرامية بالغة الخطورة. ومع ذلك استمرت السلطات فى سياسة إغماض الأعين. والسؤال الآن هو: أين وزير الداخلية المكلف بحفظ أمن المواطنين بلا أى تفرقة؟ وأين السيد نائب عام الإخوان المتأسلمين من كل هذا العدوان على إخوة فى الوطن؟ أم أنهما متفرغان لملاحقة معارضى سلطة الإسلام السياسى بالحق وبالباطل. بينما لم تحسم قضايا الاعتداء على الكنائس فى الماضى، وجرى فى عهد النائب العام الخصوصى الحالى تجميد التحقيق فى قضية تفجير كنيسة القديسين. وللعلم، فالدولة المصرية منضمة لعدد من الاتفاقات الدولية التى تحرم أى شكل من أشكال التمييز على أساس الدين بما فى ذلك العهدين الدوليين للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وللحقوق المدنية والسياسية. إن حماية أرواح وممتلكات وأمن جميع المواطنين مسئولية مقدسة للدولة المدنية الحديثة. وكثيراً ما كرر الرئيس الحاكم أنه رئيس كل المصريين، وأن الدولة تحترم اتفاقياتها الدولية جميعاً. ولكن ما بقى العدوان على المسيحيين بالعنف فى مصر مفلتاً من العقاب فلن يصدق أحد تعهده هذا. وحيث لا تخشى سلطة الإسلام السياسى الراهنة إلا الضغط الدولى، الذى قد يحرمهم من المعونات والقروض التى يتكالبون عليها، فليعلموا أن هذه الجرائم تعد فضيحة دولية بجميع المقاييس وقد تفتح باب التدخل الأجنبى فى شئون مصر، وهو ما لا نتمناه أو نرتضيه. ولكن إن لم تتمكن الدولة فى مصر من الوفاء بتعهداتها الدولية هذه، فلا يلومن غلاة المتشددين من تيار الإسلام السياسى، وسلطتهم من ورائهم، إلا أنفسهم، إن ارتأى المجتمع الدولى أن يفرض هذه التعهدات بالقوة.