لا أعلم لماذا الإصرار الأبله على أن نعيش كل هذه السنوات فى وهم الأخوة العربية ووهم الأشقاء والقومية رغم أن التاريخ لا يذكر ولم يشهد موقفاً واحداً يوحد الله على تأكيد هذه الشعارات عديمة المعنى، عديمة الجدوى، واتضح الآن أن فكرة القومية العربية ووطنى حبيبى وطنى الأكبر ما هى إلا أفكار عقيمة خيالية تشبه الأخطاء الشائعة التى تنتشر بين العامة قولاً على الألسنة وعلى صفحات الجرائد، ثرثرة قهاوى، حتى تتحول بالتكرار إلى يقين، بينما هى بالفعل لا وجود لها فى الحقيقة.. وتذكروا معى منذ حرب فلسطين والهزيمة كانت بسبب خيانة الملك عبدالله، ملك الأردن، الذى صدق وعد جولدا مائير بأنه سيتوج ملكاً على القدس إذا انسحب بجيشه من اللد والرملة.. وصدّق المسكين ولم يصبح ملكاً على القدس وظل أميراً لشرق الأردن، وفى عام 1950 فوجئ العرب بأنه أعلن ضم الضفة الغربية إلى مملكة شرق الأردن وأعلن نفسه ملكاً عليها.. وأيامها اعترض النحاس باشا ودعا لعقد مجلس الجامعة العربية وطلب طرد الأردن من الجامعة وكان مصمماً تصميماً شديداً وتدخل الأمير «فيصل»، وزير الخارجية السعودى -الملك فيصل بعد ذلك- وأخذ بهدوء وبأسلوب لبق يقنع النحاس باشا أن هناك حلاً وسطاً وأقنع الأردن أن تعلن أن هذا الضم مؤقت وأن الضفة أمانة لديه سيعيدها إلى أهل فلسطين.. وبعد عام واحد تم اغتيال ملك الأردن فى المسجد الأقصى وهو يصلى بسبب هذا الموقف.. وبعد دخول الفلسطينيين إلى أرض الأردن ومحاولتهم السيطرة على الدولة، وهى عادتهم التى حدثت فى جنوب لبنان وتونس بعد ذلك، اضطر الملك حسين إلى شن حرب إبادة ضدهم والتى سميت أيامها بأيلول الأسود والتى مات عبدالناصر بسببها بعد أيام قليلة.. وبعد موقف عربى واحد أيام حرب أكتوبر قطع فيه البترول عن الغرب وأثرى منه العرب ثراء طائلاً، لم يستمر الوفاق، إذ سرعان ما أعلن القذافى عن عدم موافقته على وقف إطلاق النار وهدد بسحب معوناته وكانت قليلة لولا «قذاف الدم» الذى تمرد عليه وجاء لمصر بمفرده ليحارب معها وها هو رهن الحبس الآن لمقايضته على بعض الأموال.. ولم يستمر الود المؤقت إذ أعلن الجميع المقاطعة بعد كامب ديفيد ونقلوا مقر الجامعة وصال صدام وجال ليتزعم الأمة الواهية ولعبت عليه أمريكا وسال لعابه على الكويت وكانت بداية لنهايته ونهاية العراق وتدشين قاعدة عسكرية فى الكويت والسعودية والإمارات وقطر والعراق وتذكروا معى حب الأشقاء العرب لمصر الكنانة والرائدة.. ضُرب الفريق الرياضى المصرى فى ليبيا وجاءوا إلى مطار القاهرة مصابين وبعضهم على مقعد متحرك، وكان العقيد القذافى يغضب فجأة على العاملين المصريين فيصادر أموالهم أو يقبض على السفن والصيادين أو يفرض رسوم مغادرة مهولة تجعل المصريين يقفون فى العراء أياماً وليالى، وتذكروا كيف ضُرب فريق الكرة المصرى والمشجعون فى السودان فى الموقعة الشهيرة ونحن المصريين مَن صنع دولة السودان ومَن أنشأ فيها الإدارة والجيش والمراكب ومَن بنى فيها وأنشأ الحدائق وأدخل الزراعة وبعث بالمصلحين وخبراء الرى وأدخل لهم البريد والتلغراف.. وها هم يحاولون بعد أن فرطوا فى نصف دولتهم أن يلتهموا منا، بواسطة الحكام الجدد، حلايب وشلاتين.. وتذكروا الجزائر عندما لعبت عندنا فى مصر واللاعب «الأخضر البلومى» الذى ضرب طبيباً فى أحد الفنادق أفقده عينه، وفى مباراة الأهلى فى تونس عندما فرغت المدرجات من الجماهير التونسية بسرعة البرق بعد أن فاز النادى الأهلى.. وهرعوا خارج الاستاد ليمطروا الفريق المصرى سباباً وحجارة.. وفى كل حادثة كنا نصرخ ونكتب عن كرامة المصرى التى أصبحت ملطشة الأشقاء، ولكن كانت السياسة تمتص الموقف لتعلن أن الأخوة العرب أشقاء وتتنازل الخارجية عن حقوق المواطن المصرى فداء للعروبة.. وإلى الآن يظل المصرى الذى شيد وبنى وعلّم وعالج وحارب فى كل دول العروبة يظل عبداً لاختراع مخجل اسمه الكفيل قادر على طرده وقطع عيشه وإلغاء عقد عمله فى أى لحظة رغم أنه يتقاضى منه «فردة» من أجره كل شهر.. تذكروا عندما بدأت حرب الفيس بوك بين بعض الشباب السعودى، الذى ألّف ولحن أغنية غاية فى البذاءة ضد المصريين، وقال ابنى أيامها نحن لم نسمع هذا السباب من شباب يهودى، وتذكرت هذه الأغنية الآن لمطابقتها لما حدث من الصحفى القطرى الذى سار على هديها وأعاد المعايرة بالفول والطعمية ولكنه أفاض بأننا نعيش على المعونة الأمريكية ونستورد فوانيس رمضان من الصين وأننا نحيا على التاريخ الواهى ولم نخترع سوى أقراص الطعمية، وهذا الصحفى المراهق لا يستحق عناء الرد وإن كان هذا هو رده على ما ترتكبه دولته من خطايا فى حق المنطقة كلها ومن عطايا لدولة إسرائيل فى رغبة بلهاء فى زعامة الأمة العربية التى ترتع فى خياله وحده.. لأنه فى الحقيقة لا توجد أمة ولا يوجد عرب بل قبائل متناحرة تأكل فى جيرانها وتتعبد تحت ظل العلم الأمريكى.. وبدلاً من توجيه الغضب للعدو الواضح ومن التوحد ضده وهو يسرق ثرواتهم دولة وراء الأخرى نجدهم يتسابقون للتآمر والهجوم على بعضهم البعض وتمويل العملاء والمجرمين للقضاء على إخوة الجوار حتى يصعدوا إلى كرسى العرش الواهى. زمان قوى قال سعد زغلول عندما عرض عليه بعض العرب أن ينشئ جامعة عربية قولته الشهيرة: «صفر + صفر كم يساوى؟ إن العرب كلهم محتلون من الإنجليز والفرنسيين والإيطاليين وليس فيهم بلد مستقل وفاقد الشىء لا يعطيه». ومرت الأيام وقامت الجامعة العربية واستقلت الدول العربية لكن ظلت الجامعة تعانى من العقم وعدم الجدوى ولن يذكر التاريخ الحديث موقفاً مشرفاً قوياً واحداً للعرب مجتمعين.. ومرت الأيام وعادت الدول العربية مرة أخرى إلى عصر الاحتلال الأقوى، حيث ترقد الآن وسطها القواعد الأمريكية وتقف على شواطئها حاملات الطائرات العملاقة.. وحتى إذا انجلت هذه الغمة عن الأمة هل من الممكن أن تعود أمة العرب إلى شىء من القوة التى لم تستطع أن تكتسبها كل هذه السنوات؟ لا بد أن نعترف بكل صراحة أننا دول متجاورة تتحدث نفس اللغة وتدين بنفس الدين وتحيا تحت ظل نفس التاريخ وفى جوار جغرافى متلامس، ولكن ليس فى قدرتها الاتحاد أو التعاون أو حتى التعامل ببعض من التحضر مع بعضنا البعض.. ربما لو اعترفنا بأننا أخوة غير أشقاء وأن ما بيننا من اختلافات وتناحر أكثر بكثير مما بيننا وبين الغرب غير الشقيق.. لو اعترفنا أننا وبعد مرور سبعين عاماً من إنشاء الجامعة العربية لم نتمكن من إنشاء سوق عربية مشتركة، لو اعترفنا أننا وقعنا فى شراك أوهام سياسية وخزعبلات إعلامية طوال هذه السنوات.. ربما عرفنا الطريق إلى المصلحة رغم عُقد النقص وأمراض التآمر وحب التناحر والرغبة الجامحة فى التسلط والزعامة الوهمية للأمة التى تسقط الآن لتعلو راية إسرائيل عالية ترفرف فوق رؤوس العرب أجمعين.