عن الوطن بأكمله نتحدّث، للنظام وللشعب، للساعين على أرزاقهم التى يعتبرونها مقابلاً لعملهم، ولغيرهم المهمومين بأن يكونوا إضافة إلى رصيد الوطن، للشاعرين بقلق بالغ، وإن لم يصب الباقين هذا الشعور، فنحن فى مأزق حقيقى، لأن القلق أولى خطوات الجد فى الطرح والعمل، حيث يُترجم فى كثير منه يقظة الروح والوعى، وهما يقيناً أهم أسلحة مجابهة اللحظة والمستقبل، فالبحث عن الاستكانة والتمرير والمراهنة على الوقت اغتيال كامل للغد، ولا أظن أن أحداً يستهدف التورط فى مثل هذا النوع من التآمر الذاتى، خصوصاً أن هذا الغد محفوف بمخاطر حقيقية فى حال عدم التسلح بما يستلزمه، وبما هو بقدر أخطاره. فى قاعة مؤتمر الشباب بمدينة شرم الشيخ، خلال ثلاثة أيام كاملة، عبقرية الفكرة والتنظيم تمثّلت فى دعوة الوطن، كى يقف أمام نفسه فى المرآة ويتلفت يميناً ويساراً كى يُدقق النظر، ولمن دقق كان لا بد سيلتقط سريعاً مساحة القلق الإيجابى التى دار البعض منها على المنصات، والكثير منها فى الأروقة وفى هوامش كانت بقدر أهمية المتن، فى إحدى الجلسات العامة، التى حضرها الرئيس وأركان الحكم بعنوان «المشاركة السياسية»، تحدث شاب من على المنصة باستفاضة، منتقداً بشكل لاذع الأحزاب السياسية، زاوية رؤيته انصبت على أنها أحزاب كرتونية ونفعية «انتخابياً، ومالياً»، وأغلبها فى حال «موت سريرى» بالنظر إليها أن تكون هى معبر الشباب للمشاركة وأداء دور إيجابى فى الحياة السياسية، وبقدر ما استجلب حديث الشاب ضحكات وتشجيع الحضور كافة، خصوصاً عندما امتد حديثه إلى مراكز الشباب وقصور الثقافة وتفاصيل الحياة داخل جنباتها وأدوارها المفترضة، بقدر ما استدعى قلقاً يفترض أن يكون محل البحث والعمل سريعاً، فمن يمتلك رفاهية تفريغ العملية السياسية من محتواها الحقيقى، ويزعم أنه يخطط للتقدم إلى الأمام واثقاً مطمئناً، وهذا الزعم ذو مسئولية مشتركة من الجميع، ولهذا ولخطورة وأهمية عنوانه وقفت أمامه كنموذج، النظام والأحزاب والجمهور يُحصّنون أنفسهم فى حال الجد بالعمل على آليات تنشيطه ودعمه المباشر والمعلن، الالتفاف حوله والتعلل بحجج واهية وإلقاء كل طرف بالمهمة على الطرف الآخر، تضع المستقبل فى مهب الأخطار الحقيقية، فالشارع والكيانات غير الرسمية جاهزون حتماً لملء الفراغ، وهم المدمر الجاهز والفعّال لأى تخطيط مستقبلى مأمون، والقادرون على صناعة سيولة سياسية مستدامة يصعب الإمساك بملامحها أو البناء عليها. فى إحدى القاعات التى شهدت ورشة عمل بعنوان «دور الإعلام وتأثيره على الرأى العام فى دعم المشاركة السياسية»، طلب أحد الشباب الكلمة لمداخلة، وبدأها كغيره بذكر اسمه والمحافظة التى ينتمى إليها، فإذا به يبدأ بديباجة هذا نصها «أنا من مدينة رأس غارب التى أكيد لا تعرفونها، أو لا يسمع عنها أحد»، قالها سريعاً بعفوية وبخجل مؤلم عبّر عنه بابتسامة باهتة، قبل أن ينطلق لمداخلته التى تساءل فيها عن دور التليفزيون الرسمى للدولة، ولماذا تأخّرت أو تعثرت خطط إصلاحه أو إعادة هيكلته، خصوصاً -وفق حديث الشاب- أنه ومعظم أهالى مدينته لا يثقون ولا يتابعون سوى التليفزيون المصرى. انتهت مداخلة الشاب ذى الصوت الهامس، وللمفارقة لم يكن يدرك أن حديثه عن مدينته المنسية، على مسافة 48 ساعة قبل اجتياح السيول لها فى الكارثة التى وضعتها على صدارة وسائل الإعلام كافة، لكن ما قاله وما جرى بعدها لم ينتهِ، بل اقتحم أسئلة المستقبل المؤجلة، فالشاب المدعو شخصياً من «رئاسة الجمهورية» ليُشارك فى المؤتمر، لم تغادره هموم مدينته وخجل ذكر اسمها، مما دفعه لإقرانه بما قاله عنها، وهى للعلم لم تكن حالة منفردة، فالتوسّع الإيجابى من «الرئاسة» فى دعوة شباب المحافظات، أوصل شجاعة وتحرر شاب فى طرح مقولات التهميش والنسيان إلى أسماع الجميع، وتردّدت فى الأروقة تفاصيل النقص الفادح للإمكانيات والخطط الخاصة بتلك المحافظات، ولم يكن نموذج «رأس غارب» الذى داهمنا بعد ساعات من نهاية فعاليات المؤتمر سوى ترجمة شاملة لما دار بيننا هناك. فثلاثة أيام من التعثُّر الحكومى لجميع الأجهزة المنوط بها التدخّل الفعّال لاحتواء آثار الكارثة المناخية، هى التى دفعت أبناء المدينة إلى عدم الترحيب بزيارة رئيس الوزراء الميدانية، ووصمهم محافظ البحر الأحمر بالتقاعس الكامل فى الاستعداد أو جاهزية التدخّل، ولم تتغيّر مفردات المشهد إلا بتدخّل القوات المسلحة بإمكانياتها وجهدها الجبار وهو «مقدّر تماماً»، لكنها فى كل الأحوال مهمة الأوضاع الاستثنائية، وأهالى تلك المدن والمحافظات ينصب حديثهم وحديثنا عن الأوضاع والخطط المستدامة، وهى الغائبة بشكل فادح وسجينة قوانين وإمكانيات أكثر فداحة، بالنظر إلى سلطات ونطاق عمل المحافظين ودولاب عملهم الجرار بدواوين المحافظات، وهنا يحضر سؤال المستقبل الذى يخص 80% من مساحة مصر ومدنها، متى يمكننا القول إننا سنستعيد، وفق خطة زمنية محددة، هيبة عواصمالمحافظات، حتى يمكنها أن تكون إضافة وقاطرة تدفع إمكانياتها المقيدة والغائبة فى خطة مستقبل الوطن، بدلاً من أن تكون على حالها الآنى الذى أوصل إلى أهلها شعوراً موجزاً لتعقيد مشهدها، بأنهم يشعرون بأنهم عبء وطاقات معطلة، يئن منها ويتجاهلها الجميع، أو بالكاد تتوافر لهم أسباب العيش اليومى فى الوقت الذى يتسابق العالم من حولنا، لشحذ كل أسلحته واستثمار سواعده، بما يستلزمها من آفاق يتم اقتحامها عنوة من دون تباطؤ، بالاستعانة بالمحترفين وذوى الرؤية العلمية القادرة على الإنجاز. رهانات الوطن إن لم تشتمل أو تقتحم مثل تلك النماذج الشاملة ذات العمومية الواضحة والمهمة، والتعلل بالإمكانيات المادية أو بغيرها، أو الالتفاف عليها بتضارب الأولويات وبإلقاء التبعات هنا أو هناك، حينها سيكون حصاد المستقبل فى خانات التوقع المنظور، أكثر مدعاة للقلق، فضلاً عما يعتريه من مخاطر ظاهرة.