"الأطفال هم الاحتياطي البشري للزمن القادم، وإذا لم يتم تحضير ذلك الاحتياطي بشكل جيد، فهذا يعني أننا نفقد مستقبلنا".. تلك الكلمات خرجت صادقة من قلب تلك السيدة الثمانينية التي قضت سنوات طويلة من عمرها تكتب المقالات والحكايات لهم من أجل تبصيرهم بمحيط دنياهم الصغيرة، وإعدادهم للانخراط في عالم أوسع لا يليق إلا بقارئ يعلم بخبايا ما يدور حوله، لتكون جديرة بلقب "ماما نعم"، لكونها المعلمة والمربية لأجيال عديدة من الأطفال والشباب، مع حلول عيد الطفولة، حاورت "الوطن" الكاتبة الصحفية نعم الباز، التي أكدت أن الأدباء الذين يكتبون للطفل حاليا مظلومون بفعل ابتعاد الأطفال عن القراءة وانشغالهم بالتليفزيون والوسائل التكنولوجية المتقدمة، وأن هناك معايير معينة يجب أن ينتبه لها كاتب الأطفال من أجل توصيل المعلومة لهم، وأن أسلوب الترهيب هو الأسوأ كمنهاج لتعليم الطفل.. وإلى نص الحوار. ■ كيف كانت بدايتك مع الكتابة للأطفال؟ بدايتي مع الأطفال كانت بسبب رجل عظيم يدع "محمد محمود شعبان" أو "بابا شارو" الذي كان مسؤولا عن ركن الأطفال بالإذاعة لفترة طويلة، ثم قرر المسؤولون عن دار "أخبار اليوم" عمل باب خاص للأطفال بالجريدة واختيار "بابا شارو" مسؤولا عنه، وكان ذلك قبل أن تقرر الدولة تأميم الصحافة وعدم أسناد أية مهام لشخصيات من خارج المؤسسات الصحفية، وحينها عرضوا عليّ تولي مسؤولية باب الأطفال بالجريدة. ■ إذن.. ما هي الخطوات التي اتخذتها من أجل تطوير ذلك الباب الصحفي بجريدة أخبار اليوم؟ كان همي الأول أن ألتقي بالأطفال داخل المدارس لأستمع منهم وأفهم لغتهم، ثم عكفت على قراءة كل ما يتم كتابته عن الطفل ورغباته والطريقة التي يمكن توصيل المعلومة له من خلالها، واكتشفت أن الأطفال يعشقون "الحواديت"، لذا بدأت في تغذية عقولهم بمعلومات مفيدة تحمل قيما حقيقية عن طريق دسها داخل حكاية بسيطة يسهل فهمها، ثم شرعت في عمل ما يسمى "الكتابة السياسية للطفل"، وهي أن أسرد كافة الأحداث السياسية الهامة للأطفال من خلال حكاية سلسة وبسيطة، بحيث لا ينفصلون عن الأحداث التي تدور حولهم. ■ وماذا كنتي تقدمين للأطفال بعيدا عن الحكايات؟ كنت أقسّم باب الأطفال ب"أخبار اليوم"، إلى أركان ثابتة، منها "الأوائل"، وهي معلومات عن شخصيات كان لها السبق في عمل شيء معين أو شخصيات تفوقت في مجالات بعينها دون غيرها، إضافة إلى شخصية "سرحان"، التي ابتكرتها في أوائل الستينيات، وكنت متعمدة أن أظهر للأطفال تلك الشخصية على أنها شديدة الذكاء رغم اسمه الذي لا يدل على ذلك، وكانت تلك الشخصية عنوانا للعديد من الحكايات المسلية والمثيرة مثل "سرحان في الامتحان، وسرحان في الأسكندرية، وسرحان في الحرب"، وكان يعاونني في صنع تلك الشخصية رسام مصري اسمه "بشرى أبو سيف"، الذي استطاع تحريك تلك الشخصية على الورق بمهارة، ما أدى إلى انتشارها بشكل واسع بين الأطفال في الستينيات. ■ حدثينا قليلا عن طفولتك والحكايات التي كنتي تستمعين لها في تلك المرحلة العمرية؟ أتذكر أن أفراد عائلتي جميعهم كانوا يحبون الاصطفاف حول عمتي التي كانت لديها مخزون لا ينضب من حواديت الأطفال، فكانت تحكي لنا عن "السندباد البحري" الذي كان يجوب العالم كله، وحكايات تربوية عن قطار يبحث عن الأطفال الذين يعصون كلام أبويهم لينزل بهم العقاب ويأخذهم بلا رجعة، وكانت طريقتها الشيقة في الحكي سببا في نمو موهبتي في تأليف الحكايات، فكنت أحيانا كثيرة أحب تقليدها وأجمع أطفال عائلتي حولي لأؤلف لهم حكايات عديدة من وحي خيالي، وكانت معظمها تنال إعجابهم. ■ متى فكرتي في تأليف كتب كاملة خاصة بح لا أذكر إنني قرأت كتابا واحدا يتعلق بالأطفال خلال السنوات الأولى من عمري، بل كنت أقرأ كتبا تناسب مراحل عمرية تكبرني بسنوات عديدة مثل أشعار المتنبي و"مهيار الدهلمي" الذي قرأته في العاشرة من عمري، لذا شعرت أن الأطفال في حاجة إلى من يأخذ بأيديهم ويكتب لهم، ولابد أن أعترف هنا بخطأي في عدم توثيق مقالاتي وكتاباتي السياسية للأطفال، لأنهم كانوا سيعتبرونها روشتة طويلة في حب الوطن والانتماء له. ■ وماذا عن كتاب "حكايات لنور القلب" التي ألفته خصيصا من أجل المكفوفين؟ شعرت بمسؤولية كبيرة تجاه المكفوفين في مصر، لأنهم الفئة الوحيدة الذين لم يجدوا من يقرأ لهم أو يثقفهم، وكنت أشعر، في الوقت نفسه، أن الكفيف يتمتع بذكاء حاد وإرادة حية، وهذا دفعني لتأليف ذلك الكتاب الذي صممت على طبعه بطريقة "برايل" وتوصيله للمكفوفين داخل المدارس، وأودعت فيه حكايات تقوي إرادتهم، وكتبت في مقدمته: "اقرأ لصديقك الذي لا يستطيع القراءة"، من أجل خلق مناخ أخوي بين المكفوفين وغيرهم. ■ كنتي صاحبة تجربة فريدة في إعطاء الأطفال فرصة الرسم بأيديهم في عدد من الكتب مثل "حكايات للصغار"، و"الأطفال ينقذون المدينة".. فكيف حدث ذلك؟ المصري رسام بطبعه، فتاريخنا وحضارتنا وصلتنا من خلال رسم الفراعنة، ولأنني مؤمنة بأننا شعب تشكيلي حتى النخاع، كنت أحكي القصة للأطفال ثم أطلق العنان لخيالهم لرسمها، وكنت أفاجئ بإبداع الأطفال في طريقة اختيار الألوان وتكوين اللوحة بشكل متكامل ورسمهم للأشجار والنهر بشكل رائع، فكانت الاستفادة متبادلة بيننا، فكنت أنمي ذوقهم الفني، وكانوا هم يشرّفون كتبي بخيالاتهم وإبداعاتهم. ■ حصلتي على العديد من الجوائز والتكريمات عن مؤلفاتك الخاصة بالأطفال.. فما هو التكريم الأحب لقلبك؟ لم يكن يهمني الجوائج التي حصلت عليها من مسؤولين كبار أو مؤسسات صحفية، لأن تلك الجوائز كانت تخضع لحسابات واعتبارات معينة، ولكني كنت أصل إلى أوج سعادتي عندما كان الأطفال أنفسهم يكرمونني داخل المدارس، ويقلدونني عشرات الدروع من كل محافظات الجمهورية، لأن هؤلاء الأطفال يعبرون فعلا عن الحب الذي يكنونه لي بداخلهم، ولا تخضع تكريماتهم لأية حسابات أو اعتبارات شخصية. ■ في رأيك.. من هم الأدباء الذين أثرت كتاباتهم فعليا في الأطفال؟ لا أستطيع أن أجيب عن هذا السؤال دون أن أضع الأديب كامل كيلاني على رأس كل من كتبوا للأطفال، فهو مؤسس مكتبة الطفل في الوطن العربي وليس له مثيل في دوره التفقيقي الذي قام به تجاه الطفل المصري والعربي، وهناك أيضا الأديب سمير التلميذ و"ماما لبنى" التي أسست مجلة "سمير" للأطفال، والكاتب عبد التواب يوسف الذي كان من رواد الكتابة للأطفال. ■ وماذا عن الأدباء الذين يكتبون للأطفال حاليا؟ لا أخفي أنني لست متابعة للأدباء المتخصصين في الكتابة للأطفال حاليا، ولكني أستطيع القول بأن هؤلاء مظلومون في الوقت الحالي، لأن التليفزيون اغتال القراءة تماما، وقضى على فكرة الخيال والارتباط بالحرف، ولابد أن يقاوم كتّاب الأطفال هذا المناخ من خلال ابتكار أساليب مغرية لدفع الأطفال للقراءة، وذلك من خلال إشراك الأطفال في صناعة تلك الكتب، سواء من خلال إعطاء الفرصة لهم لإكمال الحواديت والمشاركة في كتابتها، أو استغلال مواهبهم في الرسم، فضلا عن عدم التعامل مع المضمون الذي يقدمونه للأطفال على أنه شيء سهل أو يمكن الاستهانة به. ■ وبما تنصحين الأهالي من أجل إعادة تثقيف أطفالهم؟ أنصح الأهالي بالكلام دائما مع أطفالهم، وعدم إعطاء المعلومة لهم بشكل مباشر أو حاد، وعدم استخدام وسائل الترهيب لتوصيل المعلومة لهم، كما أرجوهم بعدم إلقاء أطفالهم في أحضان التليفزيون وحثهم على القراءة بشتى الطرق، ولابد أن يلعب التليفزيون نفسه دورره بعمل برامج تحريضية لحث الأطفال على القراءة، لأن القراءة هي مخزون العقل الذي يثبت بعكس ما تراه العين، كما أنها ستظل دائما وأبدا هي أم المعارف وجزء أصيل من تكوين الفكر الإنساني.