فى المحطة الثالثة من حوارات الأمن القومى، نُفتش فى عقل دبلوماسى رفيع المستوى، له تاريخ وظيفى مميز لطالما ارتبط بموضوعات على تماس مباشر بالأمن القومى المصرى، منذ عمله فى مكتب وزير الخارجية الأسبق عصمت عبدالمجيد، ثم إدارته لمكتب خليفته عمرو موسى، مروراً بعمله ضمن بعثات مصر فى واشنطن وتل أبيب، إلى توليه منصب وزارة الخارجية. إنه الوزير السابق محمد العرابى الذى يؤكد أن مصر تواجه خطورة حقيقية، على وضعها فى المنطقة، تدفعها لتصبح دولة «تابعة» فعلياً. * ما تعريفك للأمن القومى المصرى؟ - هناك تعريفات عديدة، لكن باختصار أرى أن كل العناصر التى تتعلق بوجود مصر واستمرارها وبقائها. * نريد توضيحاً أكثر؟ - أعنى أن الأمن القومى المصرى، يتمثل فى نهر النيل وحدودها كلها، وقناة السويس، وشبه جزيرة سيناء والمعابر والمطارات والنسيج الاجتماعى الداخلى، وتماسك الجبهة والاقتصاد وقوته، وكل المقومات التى إذا ما اختلت انهارت الدولة المصرية، وتخلخلت عناصر قوتها، وفوق هذا كله الجيش وأجهزة الأمن والخارجية والإعلام، وكل الحزمة التى تتكوّن منها الدولة المصرية، وكل مكون من هذه المكوّنات يؤثر على الأمن القومى المصرى، وكل مكون منها لا بد من الدراية بأهميته، حتى لا يحدث خلل أو اهتزاز فى هذه العناصر، فالأمن القومى المصرى لا يعنى أن تمنع حرباً أو تدخلاً خارجياً فى بلدك، بل أن تحافظ على بلدك وكيانها وتماسكها، لو قلنا إن النيل هو شريان الحياة، فإن الأمن القومى المصرى هو وجود مصر. * بعد عامين من الثورة.. هل هناك مخاطر تواجه عناصر الأمن القومى تلك؟ وفيم تتمثل؟ - أكيد، كل العناصر التى ذكرتها تتعرض لاهتزاز حاد أو عدم العناية، أو إمكانية التجاوز فيها، وما يتم حالياً هو عكس ما ذكرته، يعنى مثلاً على صعيد اهتمامنا بشريان الحياة نهر النيل، لا يوجد أى تقدّم فى علاقاتنا بدول حوض النيل، وإذا نظرت إلى الحدود ستجد أن حدودك دائماً منتهكة، سواء الغربية مع ليبيا أو الشرقية مع غزة وإسرائيل، وعلاقاتنا بدول الجوار ليست بالقوة اللازمة، ولا بد أن نُنمى علاقاتنا بدول الجوار، تنمية خاصة جداً، لأن هذه حدود دولتنا، وكل عناصر الأمن القومى، لم يحصل لها أىّ نوع من التطوير، أو حتى الاهتمام الزائد. * كيف؟ - بعد ثورة فى هذه الدولة، التى أصبحت تنتهج النهج الديمقراطى والانفتاح على العالم، كان يجب عليها أن يكون لها نظرة أقوى، وبها عناية أكبر لكل مكوّنات الأمن القومى المصرى، لكنى أرى الأمور تسير بشكل تقليدى وروتينى، لا يبعد كثيراً عن الماضى. * لا يبعد كثيراً عن الماضى، أم أسوأ من الماضى؟ - بالنظر إلى الأمن القومى كوحدة واحدة، أرى أن الوضع أسوأ؛ لأن لديك اختلالاً فى عنصر أساسى هو الاقتصاد، وهذا يؤدى إلى هزة قوية، وضعف داخلى يسمح لبعض القوى بالتأثير على قراراتنا فيما بعد، وهذا كله خلل فى الأمن القومى المصرى. * ما طبيعة الدور الذى تقوم به الدبلوماسية المصرية فى منظومة الأمن القومى حالياً؟ - دائماً أقول كلمة أؤمن بها، هى أن وزارة الخارجية هى خط الدفاع الأول عن الأمن القومى، بمعنى أن الدبلوماسيين هم من يعملون فى الخارج، ويرون دوائر صُنع القرار الخارجى، وعيناه على مراكز الأبحاث المتقدّمة، ولديهم دراية بما يدور فى الغرف المغلقة، ولديهم قدرة أكبر على استشراف ما يأتى فى المستقبل، سواء بالسلب أو الإيجاب بالنسبة للأمن القومى. * كدبلوماسى، ما التحديات التى تواجه أمننا القومى حالياً؟ أولاً: الانقسام الداخلى والتفكُّك الاجتماعى والانهيار الأخلاقى، وهو أكبر خطر يمكن أن يواجه أمة مثل مصر، ثانياً: الانهيار الاقتصادى، وهو أحد العوامل المعرقلة للتماسك الاجتماعى، والتطور الاقتصادى، على طريق التطوّر السياسى والتماسُك الاجتماعى، فلدينا مشكلتان هما التفكُّك الاجتماعى والاقتصادى، وهما عنصران كفيلان بانهيار أى أمة، فما بالك أننا ما زلنا فى إطار التطوّر لنظام ديمقراطى، أعتقد أن مساره طويل، وسنسير به فى بطء شديد، حتى نصل إلى ديمقراطية حقيقية. ثالثاً: تحدى فكرة تكوين الميليشيات العسكرية، وهى تنقلنا من فكرة الدولة الرخوة، إلى فكرة الدولة الفاشلة. هذه العناصر الثلاثة يجب أن توضع فى أولوية واحدة، وإذا لم نستيقظ فوراً ونحاول لملمة الوضع، ونقف على أقدامنا مرة أخرى فى المجالات الثلاثة، ستكون هذه الأمة معرّضة لخطر كبير، أضف إلى ذلك أننا أصبحنا نعيش تحت خط الفقر المائى، وهذا عنصر يُهدّد أمننا واستقرارنا، بل يُهدد وجودنا، وهذا لا يستدعى أن يتدخّل أحد ويتآمر ضدنا، لدينا كل عناصر التحديات موجودة، ومتكالبة علينا، وأتمنى أن نخرج من هذه الدائرة الضيّقة، التى وضعنا أنفسنا فيها بأيدينا. * وكيف وضعنا أنفسنا فى هذا المأزق؟ - كان من المفترض أن تكون الأمور أسهل من هذا بعد ثورة عظيمة قام بها الشعب، لا أن تسوء أكثر، وهذه هى العناصر الأربعة المهدّدة تماماً لكيان هذه الأمة. * إلى أين يسير ملف حوض النيل؟ - ليس هناك جديد، ووضع السكون المصرى الراهن فى غاية الخطورة، فلم تتبلور بعد استراتيجية بها إبداع، لجعل حوض النيل منطقة للتعاون، وليس المواجهة، ويجب العمل بقوة وسرعة، لتكريس فكرة الاندماج والتعاون وتنمية حوض النيل، ومساعدة دوله بعضها بعضاً، وتغيير فكرة المواجهة، وهذا هو السبيل للخروج من مأزق الفقر المائى. * دول المنابع لها موقف موحّد وماضية فيه، فما الخيارات أمام مصر؟ - لدينا العديد من الخيارات، وتتذكر أننى قلت فيما مضى قبل الانتخابات الرئاسية، إن أى رئيس يجب أن يتّجه إلى الجنوب، أكثر من الشمال أو الشرق، لأن الجنوب هو الأهم لدينا فى مصر، والجنوب بمعنى السودان ودول حوض النيل وأفريقيا، ونحن تأخرنا كثيراً لمدة عامين، وركّزنا على مشكلاتنا الداخلية، ولم نضع فى اعتبارنا أن استقرارنا الداخلى ينبع من استقرارنا الخارجى، للأسف ظننا أن مشكلاتنا الداخلية هى كل شىء فى حياتنا، ودائماً ما أقول إن أى دولة ضعيفة داخلياً، لن يكون لها تأثير خارجى أو سياسة خارجية. لا بد أن نهتم بدول حوض النيل أكثر، لأن هذا الملف سيكون مثاراً لمشكلات وضغوط داخلية هائلة على مصر خلال عقدين من الزمان، معدل المياه سيقل والسكان ستزيد، وأرى ضرورة التحرُّك بشكل أكثر قوة وسرعة لدول حوض النيل. * لننتقل إذن إلى الشرق.. كيف ترى وضع قطاع غزة وتأثيره على مصر؟ وما طبيعة العلاقة بين حماس والنظام حالياً؟ وانعكاسات ذلك على أمننا القومى؟ - بالنظر إلى الشرق نجده يحمل مخاطر أكبر بالنسبة لمصر من أى مكان آخر، بمعنى التهديد الاستراتيجى لأمن مصر، لدينا فى الشرق ثلاثة عناصر مهمة: غزة أو حركة حماس، وإسرائيل، والحركات الجهادية فى سيناء. هذه بؤرة مخاطر تتربّص بمصر بأشكال مختلفة، ويبدو أنه ليس لدينا إدراك بخطورة هذه الدائرة على حدودنا، وهم ليسوا متحدين فى الفكر أو الأهداف، ولكنهم متحدون فى خطورتهم على مصر، أقلهم خطراً وأسهلهم هو غزة، والتعامل مع حركة حماس، لأنى دائماً أقول إن مصر شجرة، وغزة فرع من هذه الشجرة، ونستطيع تسيير هذا القطاع، وتستطيع مصر السيطرة عليه، أتكلم من منطلق تبعية حماس للإخوان، والمفترض أن تتماشى الحركة مع سياستنا، لا العكس، وحماس كواجهة نضالية، أُقدِّرها وأعترف بها، ولكنى ضد فكرة أن تكون هناك أى محاولات للتأثير على القرار المصرى، من أى فصيل أو جماعة، فالعناصر الجهادية هى الخطر الأكبر على مصر، لأنها إذا لم تتوافق سياسات الحكومة المصرية معها، فسترتد إلى صدر الحكومة المصرية، وفكرة أن هذه العناصر فى علاقة توافق، أو انسجام مع الجهات الرئاسية فى مصر، وأرى أن هذا سينقلب عليها فى مرحلة ما، والعناصر الجهادية قد تكون نقطة ضعف عندنا وترتد إلى صدورنا على المدى الطويل. * وماذا عن إسرائيل؟ - لا أرى أن من مصلحة إسرائيل الاستراتيجية أن تحاول زعزعة السكون السائد فى الجبهة المصرية - الإسرائيلية الآن. * هناك حديث متكرّر داخل إسرائيل عن أن سيناء تمثل أكبر تهديد لها؟ - هذا من ناحية العناصر الجهادية التى أتحدث عنها، لكن فى نفس الوقت إسرائيل فى وضع مريح استراتيجياً لأول مرة. * كيف؟ - انظر إلى المنطقة وأنت تدرك ما أقول. الجيش العراقى مُفكك، والجيش السورى منتهٍ، والجيش المصرى عليه مهام جسيمة، فى هذه المرحلة الدقيقة، وطبعاً لا أعتقد أنه فى عقيدته الآن الدخول فى صدام مع إسرائيل، والأردن غير قادر على عمل شىء بمفرده، فأصبحت إسرائيل الآن فى وضع مريح استراتيجياً، وتركز على إيران كإثبات للمخاوف وتحفيز الغرب ضد إيران. * ماذا تريد إيران من مصر فى الواقع بعيداً عن الكلام الدبلوماسى؟ - لست من المقتنعين بفكرة تشييع مصر؛ لأننا كما يقولون سُّنيُّو المذهب شيعيو الهوى، وهذا ليس ما يقلقنى من إيران، ما يقلقنى منها هو فكرة تصدير المفهوم السياسى السائد فى إيران، إلى دولة بقوة مصر، وعظمتها وثقلها العربى والإقليمى، عندما تأخذ المثل من النظام الإيرانى، أعتقد أن فى هذا نوعاً من التغيير فى الهوية المصرية، وهذا أخطر شىء يمكن أن تواجهه مصر فى الفترة المقبلة، وغير ذلك لا أرى خطراً من إيران. * البعض يرى أنه فى ظل الحرب الباردة لإيران مع إسرائيل، ربما تريد إيران أن تشغل الجبهة الإسرائيلية مع مصر لدرء المخاطر عنها؟ - أرى أن هذا يكون حماقة سياسية من جانبهم، لأن الأمور لن تلعب هكذا أبداً، لأن عملية تسخين الجبهة المصرية للتخفيف الضغط عنهم به جهل بحقائق الوضع الاستراتيجى فى المنطقة ولا أرى أن مصر سوف تنجر لهذه الأمور. * هل ترى أن التقارب مع إيران كان من مصلحة مصر؟ - لا أرى أنه بُنى على مصلحة، بل بُنى على أساس دعائى «بروباجاندا سياسية»، وهو أن النظام السابق كان ضد التقارُب مع إيران، والنظام الجديد، بصبغة جديدة، ليس لديه مانع من تنشيط العلاقة مع إيران، وعندما تنظر له لن ترى أن هناك شيئاً جديداً فى النهاية، العملية فقط مجرد زيارة للرئيسين «مرسى» و«نجاد» هنا وهناك، وفى مؤتمرين دوليين. * لكن هناك الآن سياحة إيرانية؟ - عندما جاء سياح إيرانيون تحرّكوا فى أماكن محصورة، ومحدودة، بتأشيرة وطائرات «شارتر»، ولا أرى أن فى هذا انفراجة، ذات معنى سياسى كبير. * ما سر التحفّظ المصرى تجاه إيران إذن؟ - لأن هناك بعض الأجهزة ما زالت تعيش أسيرة لأفكار قديمة؛ وفى المقابل أستغرب جداً أننا وفى الوقت الذى نفتح فيه المجال أمام الإيرانيين، نُقيّد على العراقيين، كنت فى بغداد منذ وقت قريب، وكانت الشكوى الأولى من العراقيين، أنكم فى مصر تفتحون المجال أمام الإيرانيين، بينما لا نستطيع الدخول إلا بعد موافقات أمنية وانتظار بالمطار، ولا أرى أن هناك سبباً وجيهاً لذلك. * برأيك، ماذا تريد قطر من مصر؟ - قطر لا تريد من مصر فقط، لكنها تريد من المنطقة كلها، وعندما تنظر إليها، لا تركز على مصر فقط، ولكن على نشاطها فى المنطقة، بداية من دورها فى موضوعات السودان، وتدخُّلها فى مشكلاتها الداخلية فى دارفور وخلافه، ودورها فى ليبيا، كما حضرت المسرح العربى للتدخل الدولى فى ليبيا، وهو الدور الذى تلعب ما يشبهه الآن فى سوريا، إنها دولة صغيرة ذات موارد كبيرة جداً، وتحاول أن تلعب دوراً، وهم لا يُلامون على أن لهم استراتيجية نشطة بهذا الشكل، ولكن الملام من يخضع لهم ويرضخ لمثل هذه المزاعم أو النفوذ، من دولة مثل قطر. * هل ترى أن أهدافهم نبيلة تجاه مصر؟ - لا أقول إن أهدافهم نبيلة إزاء مصر، ولكنهم يحاولون أن يكون لهم قوة تأثير، على القرار المصرى والعربى، لأهداف أخرى خاصة بمنطقة الخليج، بمعنى أنه يزحف إلى خارج منطقة الخليج، كى يمتلك قوة تأثير فى منطقة الخليج ذاتها. * وكيف تنظر إلى تأثير البعد الآخر فى حدودنا الغربية والوضع فى ليبيا على الأمن القومى؟ - لا بد أن نعترف أننا تأخرنا كثيراً فى التعامل مع ليبيا بعد الثورة، وانكفأنا على مشكلاتنا الداخلية، وتركنا دولة محورية مهمة بالنسبة لنا، تمثل ثقلاً استراتيجياً لمصر على حدودها، كما تأخرنا فى التعامل معها، وتركنا كل الأمور للريح، يعنى زى ما تيجى، أمضينا فترة مش عايزين نزعّل «القذافى»، وبعدها أيّدنا الثوار، ولم يكن لنا سياسة واضحة ثابتة، وهذه مشكلة وقعنا فيها، واتبعنا نفس الأسلوب بالنسبة لسوريا، لكن الآن هناك سياسة واضحة لدينا هناك، أما على صعيد ليبيا فلا أعتقد أنه سيكون من السهل رأب صدع العلاقة معها، وإعادتها ثانية. عندما ذهبت إلى العراق شعرت أن هناك مشاعر شعبية قوية تجاه مصر، فهل هذه المشاعر موجودة فى ليبيا، أرى أن الظاهر يقول لا، ولا أعرف أسباب ذلك، فعندما تذهب إلى العراق يسألك الجميع «أين أنتم؟»، و«لم تتركوننا؟» و«أين شركاتكم؟»، وستجد استدعاء دائماً منهم لوجودك، ولا أرى هذا الاستدعاء فى ليبيا للأسف، هذا أمر يجب أن ندرسه ونتعامل معه برفق، لأن لدينا غلظة فى التعامل الخارجى. * ماذا تقصد بالغلظة فى التعامل الخارجى؟ - بمعنى أن صورتنا فى الخارج مهتزة، وغير معروفة، ولم تُكتشف بعد، ولا أحد يستطيع أن يتوصّل إلى تصوّر ما هى مصر القادمة؟ * وما خطورة هذا الوضع؟ - فى منتهى الخطورة، لأن الدول ستكون متردّدة فى التعامل معك كشريك فى التنمية. * بعد جلسة البرلمان الأوروبى الأخيرة، والقرارات الأوروبية السلبية بشأن وقف المساعدات، كيف ترى انعكاس عدم الارتياح الأوروبى تجاه أوضاع مصر على مستقبل العلاقة معها؟ - الغرب ينظر إلينا نظرتين، الأولى أن مصر مرّت بتجربة ديمقراطية، وهذا شىء جيد، حيث تم انتخاب رئيس مدنى للمرة الأولى، والثانية أن تيار الإسلام السياسى بات فى الحكم الآن، وهذان يحددان تشكيل نظرة الغرب لك، ويجب أن تراعيهما فى العمل، فإذا كان الغرب يرى أننا مارسنا تجربة ديمقراطية سليمة، فإن على من فى السلطة أن يحافظ على هذا، وعليه أن يكون مقتنعاً بأن الانتخابات ليست النهاية فى الديمقراطية، بل البداية، وتتبعها مجموعة حريات لتكتمل الصورة الديمقراطية، التى يمكن أن يقف العالم ويشيد بها، ويصفّق لها ويساعدك، لا يمكن أن تكون هناك انتخابات حرة، ثم انتهاكات لحقوق الإنسان، أو كبت للحريات والصحافة وتدخُّل فى أعمال القضاء، لا تقول إن تلك هى الديمقراطية، التى سيشيد بها الغرب، انسَ أن الديمقراطية هى الانتخابات فقط. * وماذا عن النظرة الأوروبية لوجود الإسلاميين فى السلطة؟ - لعلمك، هناك دول غربية كثيرة ترى منحهم الفرصة، وكنت فى ألمانيا قريباً، والآراء هناك تقول فلنعطِ فرصة للتيار الإسلامى لكى يحكم، وردود الفعل الحادة للاتحاد الأوروبى نتيجة اقتصار النظرة إلى الديمقراطية على الانتخابات، فى حين يجرى إهمال حقوق الإنسان، ونصحنا أكثر من مرة بأن تكون للإسلام السياسى صورة جيدة وواضحة، أمام القوى الخارجية، لكن فشل هذا التيار فى المحورين، وبالتالى هذه الدول بدأت تعيد صياغة موقفها واستراتيجيتها فى التعامل مع نظام الحكم فى مصر، وما ينطبق عليها ينطبق على الآخرين، لأن مصر هى النموذج والدولة العربية الكبرى، وكانت الآمال معقودة على أن تبدأ الديمقراطية منها، وما حدث أعطى إشارات غير إيجابية، وبالتالى الطرف الآخر، أو البرلمان الأوروبى ينظر إلى الأمور فى مصر نظرة قلق. * هل كانت هذه النظرة حاضرة أثناء زيارة الرئيس الأخيرة إلى ألمانيا؟ - هى زيارة أولى، والسيدة أنجيلا ميركل بحكم تكوينها وطبيعتها، لديها حساسية ما من تيار الإسلام السياسى، وهذا أمر أعرفه عنها جيداً، هى سعيدة بالتطوُّر الديمقراطى ولكن لديها نوع من القلق من هذا التيار، وهى تنظر، والفكرة التى كوّنتها لم تكن جيدة جداً عن مستقبل الحكم فى مصر، ورأت أن أمامها شوطاً طويلاً من الاتصالات والمباحثات والشد والجذب والصعود والهبوط حتى تصل إلى علاقات رصينة بين مصر وألمانيا. * هل من الممكن أن يتزايد الضغط الأوروبى لتمرير ما كانت مصر ترفضه فى السابق، فيما يخص بعض القضايا الاجتماعية التى تخالف عقائدنا وتركيبة مجتمعنا، مما يهدد تماسك المجتمع الذى ذكرت أنه أحد عناصر الأمن القومى؟ - لا أعتقد، لأن هناك أموراً معينة يتقبّلون فيها موقفك النابع من ثقافتك ومن دينك، ولا أعتقد أن الأمور يمكن أن تصل إلى مقايضة الأمور بهذا الشكل، وهذه المطالب قديمة وموجودة منذ أيام النظام السابق، ورفضنا وكان لدينا حجج كثيرة وطرحناها، صحيح لم يكن الوضع الداخلى بهذا الشكل، ولكن دعنا نقل إن استقرار مصر هو المفتاح، وجزء كبير مما قد يقال عنه «تأييد للإخوان» لتولى الحكم فى مصر، هو أن الغرب يدرك تماماً أن الإخوان أقوى فصيل على الأرض، وهو القادر على إضفاء صفة الاستقرار فى المجتمع المصرى. * فى ظل حالة السيولة العربية الراهنة، هل ترى فعلاً أن ما كنا نسخر منه بالأمس حول الفوضى الخلاقة والشرق الأوسط الكبير، صار واقعاً نعيشه؟ - أتفق معك، الكلام الذى كان يقال سابقاً من أمثال ريتشارد بين، الذى قال إن مصر ستكون الجائزة الكبرى، كنت أرد عليه متسائلاً: «ما هذا الكلام الساذج؟»، لا بد أن نبدأ من منطلق واحد هو أن الاستراتيجية الأمريكية فى الشرق الأوسط دائماً ما تبدأ ولا تنتهى، بمعنى أنهم يبدأون من شكل هم يرونه ولكن لا يعرفون كيف سينتهى. هم يصمّمون الشىء ثم يفصلونه على الشعوب، ولا بد أنهم يعرفون خصائص المنطقة، بمعنى أنه لا يمكن أن يطبّقوا خطتهم فى ألمانيا واليابان، بعد الحرب العالمية الثانية فى دولة مثل العراق. هم عملوا هذا، ودائماً أقول إن أمريكا تبدأ فى المنطقة، ثم لا تعرف أو تفشل فى وضع النهاية، لأنهم لا يدرسون المنطقة قبل وضع استراتيجياتهم. * إذن، تؤيد كلمة هنرى كسينجر إن «الدبلوماسية الأمريكية يمكنها النجاح فى الأمور الفنية بكفاءة عالية، فيما تغيب عنها الاستراتيجية»؟ - أتفق معه بالضبط، ولو أنه يتنبأ الآن بصدام بين الجيش والإخوان، وهو أول من تنبّأ بوصول الإخوان إلى السلطة. * ما توازنات هذا «الشرق الأوسط الجديد» الذى نعيشه؟ - هناك توازنات إقليمية جديدة ولكن ليس شرق أوسط جديداً، هذا شرق أوسط «جديد جديد»، بمعنى أنه ليس الشرق الأوسط الجديد، الذى تحدّثت عنه الولاياتالمتحدة فى عهد بوش، الشرق الأوسط ظهر بشكل جديد وتحالفات جديدة، يعنى مين قال إن الثلاثى المصرى - السورى - السعودى انهار، لنخلق ثلاثياً جديداً «مصرى - إيرانى - تركى»، ولا يكون ثلاثياً عربياً به قوى أخرى خارج الإقليم، لا أعتقد أن مصر خططت فى يوم لأن يكون هناك تقارب إيرانى - سورى، بالإضافة إلى حزب الله وحماس، حيث كان التقارب واضحاً ومؤثراً، والآن هناك تقارب تركى - إيرانى - مصرى وتفاعلاته قادمة. * هل تخشى على مكانة مصر فى الخريطة الإقليمية الجديدة؟ - نعم، أخشى أنها ستكون دولة تابعة لا قائدة، نتيجة الوهن السياسى والاقتصادى والاجتماعى الذى يجعلنا كالرجل المريض ونقبل بالتبعية. * إذا استمر الوضع على ما هو عليه، إلى أين يصل الوضع بالأمن القومى المصرى؟ - سيكون هناك اضطرابات أو عوامل كثيرة مؤثرة بالسلب على الأمن القومى المصرى فى الفترة المقبلة، ويبقى أمامنا شىء جميل، وهو أن الشعب المصرى أصبح واعياً ومُسيّساً بدرجة عالية، والجيش المصرى قوى وما زال يمثّل ركناً أصيلاً فى حماية الأمن القومى المصرى. * الانطلاقة من أين؟ - الانطلاقة من التماسك الاجتماعى والتوافق الوطنى والتكاتف لإنقاذ الاقتصاد لأن الإضراب الأمنى والاجتماعى الحالى فى الأساس ينبع من عوامل اقتصادية.. والاقتصاد هو صميم المشكلة فى مصر حالياً، ويمكن بسهولة وسرعة إعادة دورانه بمواردنا فى السياحة وقناة السويس وغيرها.