فى ذاكرة الطفل عرفتُه صورةً مرسومةً بعناية كوجه ملائكى معلقة فى صدر بيت العائلة، تفترش الجدة الأرض، تتوسد مضجعاً محشواً بقش الأرز، تنتظر أذان المغرب، وما إن تفرغ من صلاتها جالسة، حتى ترفع كفيها «إلهى يحوّل وشك ناحيتنا يا صبحى، قادر أبوخيمة زرقا يرجّع الغايب» يتململ الحفيد الذى لم يتجاوز السابعة حينها من كلمات الجدة غير المفهومة، لكن فى غضون أيام ينتفض البيت فرحاً، النوافذ مفتوحة على مصراعيها، الخالات يغسلن الستائر والحصير والكليم وفرش الكنب البلدى، اليوم سيعود الغائب. ما إن نزل من السيارة حتى أبصر جدته، عجوز طاعنة فى السن جاوزت المائة، لا تتحرك إلا زحفاً، أجلسوها فى الشمس على «النورج» تزيح أرتال الذباب السخيف المتكالب على قطعة خبز فى حجرها، وتنتظر صبحى، هرول إليها واحتضنها وراح يدور بها كما عاشقين، مدت يدها إليه ب«الكوز» ليملأها، نظر إليها الشاب الثلاثينى القادم من انقطاع طال 10 سنوات من «الصعلكة» فى أوروبا، اللهم إلا «كارت» معايدة يحمل أختام بلاد لم تسمع بلدتنا عنها قط سوى أساطير ينسجها خيال 35 حفيداً عن مغامرات الخال الغائب، وكلما وجدنا لغزاً صعباً على الحل، أو مشهداً فى فيلم أكشن، أو «دون جوان» تتهافت عليه الحسناوات، صحنا فى الرفاق «خالى يستطيع أن يفعل كل هذا.. إنه صبحى». كان لجدى كُرمة عنب رائعة، ننتظر الصيف لنأكل حتى نختنق، كانت الحبات تتراص فى كثافة غريبة، يقولون إن أرضنا مميزة، «طلمبة الميه» التى «دقها» جد والدتى منذ سبعين سنة ما زالت تأتى بماء سلسبيل، يقصدها كل المارة لتعبئة «القلل» وسقيا الدواب، ذات صباح أغبر، قرر صبحى -المهندس الزراعى- أن ينقل خبراته الأوروبية إلى سليقة والده، أخبره أن العصافير التى تنقر العنب وتفسده لا يجدى معها ذاك الاختراع الأحمق المدعو «عفريت المآتة»، لعب فى رأسه -سامحه الله- وأقنعه أن يغلف كل عنقود بكيس بلاستيكى، وثقة من جدى نفذ النصيحة، وفسد المحصول كاملاً، واقتلعت أشجار العنب، وتحولت سهراتنا من تحلية بالعنب، إلى شواء للذرة. فى شم النسيم كان ينصب المراجيح، يعلمنا التزلج على كومة الردم أحياناً، علمنا فن تعريش الأسقف، والنجارة والبناء بالطوب اللبن وصناعة السنانير وصيد السمك والعصافير، كنا صغاراً نخشى «نطح» الخراف فعلمنا سرج الحصان وتلجيمه وتحميمه، يصحبنا إلى «الغيط» ليلاً ليروى الأرض ونشرب الشاى على الراكية وليس معنا سوى كلب «بلدى» هذيل صوته لا يوحى بهيئته، علّمنا الجنون والتمرد وتطويع الأشياء، علّمنا السخرية من الموت، أن نفتح صدورنا برحابة الأرض واتساع السماء، وكلما ارتكب أحدنا جريمة أو خطيئة كان يهرول إليه ليأتى بالحل، حلوله دائماً غير متوقعة، لديه قدرة غريبة على ابتكار النكات وتحويل أطهر الموقف وأبسطها إلى تأويلات قبيحة أحياناً، لكن فى حضرته، لا يملك أحد أن يكبح جماح الضحك. منذ أشهر تمكن منه ما تسميه جدتى «المرض الوحش»، كان قد وصل إلى مرحلة اللاشفاء، وكان يدرك ذلك، فى إحدى جلسات «الكيماوى» احتاج زميل له حقنة لم تتوفر فى المستشفى، خلع «الكانيولا» من يده ونزل ليشتريها وعاد، ليستكمل علاجه.. ثم رحل.