تشق الشمس بنورها وجهَ السماء، تكشف عن مساحات خضراء واسعة تتجازو المائة فدان، تتحرك معها الطيور والعصافير لتعلن يوماً جديداً فى عزبة مجدى عبدالصمد، تنهض النساء لأعمال منزلية معتادة، وبمجرد أن ينهينها تبدأ مسيرة كفاح أخرى مشتركة مع أزواجهن، وللرجال رحلة معتادة يسوقون همتهم فيها نحو أرض يزرعونها منذ أكثر من 20 عاماً، لم تكن يوماً ملكاً لهم، ولن يجول بحلمهم أن يتملكوها، هم فقط زارعوها، يحصدون من خيراتها الربع، ويعيشون عليه فى بيوت نائية بدائية، منها ما أصابه التطور، فعرف طريق اللمبة الكهربائية، ومنها ما وقف تطوره عند بناء من الطوب اللبن يحميه وأسرته من بطش الأيام، على لمبة جاز. للصباح فى عزبة عبدالصمد شأن آخر عن أى صباح فى قرى ومراكز محافظة الشرقية، فما يقرب من خمس عشرة أسرة بالمكان تصطف فى طابور للوقوف أمام حمام عمومى وحيد، لا أحد يملك غيره لقضاء حاجته، بعضهم لا يجد مرارة فى أن يطول مشواره بضعة مترات ليستغل حمام المسجد الذى يبعد عن المكان بنحو 700 متر، لا فارق هنا سوى الراحة النفسية التى يشعر بها فى مسجد بسيط يملك خصوصية أكبر، عن ذلك المكان الذى لا يملكون غيره لقضاء حاجاتهم. طبيعة المكان البدائية تدفع بسكانها لأحلام بسيطة، فمن بين سيدات العزبة تقف صباح مصطفى ذات الأربعين ربيعاً حاملة فى يدها «جركن» كبيراً تصطف بين العشرات فى انتظار دورها لتأخذ نصيبها من حنفية المياه العمومية وتستطيع أن تقوم بأعمال منزلها المتواضع، لم تمل «صباح» تلك الحياة لكنها تشعر باليأس كلما أتت إلى الحنفية فوجدتها فارغة من مياهها، يضطرها الحال للجوء إلى أماكن أخرى لأخذ ما تريده من المياه، قد يتطلب الأمر أن تتكبد مشقة طريق أطول، أو استقلال أى من وسائل المواصلات المعروفة لهم والأكثر انتشاراً وهى «الحمير»، «صباح» تقف حاملة ابنتها الصغيرة على كتفها، تستجير ببعض جيرانها لمنحها بعضاً من المياه لتستطيع أن تلبى حاجة صغارها من الطعام، ولكن الحال الذى تعيشه هو نفسه حال الكثيرات من حولها. 20 عاماً قضتها «صباح» وأسرتها فى عزبة عبدالصمد بمنزل متواضع من غرفة واحدة، يضمها وصغارها وزوجها كل يوم مع غروب الشمس، تحكى «صباح» عن حالها بالعزبة «هو ده نظام الوسية، هنعمل إيه، بنزرع أرض مش بتاعتنا بس بناخد ربع حصاد اللى بنزرعه، وهو ده النظام فى المكان كله»، تنتهى «صباح» من غسل ملابس صغارها على يديها، لتبدأ فى تجفيفها عبر حبل غسيل يقطع الطريق المؤدى لبيتها استعداداً ليوم دراسى تذهب إليه ابنتها الكبرى «أسماء» التى تقطع نحو ثلاثة كيلومترات على قدميها ذهاباً إلى قرية أولاد موسى حيث توجد مدرستها، وتقطع مثلها فى العودة، «أسماء» طفلة فى العاشرة من عمرها، اعتادت على قطع تلك المسافات لتتلقى تعليماً حرم منه كثيرون غيرها فى العزبة، من نفس عمرها، لبعد المدرسة عن المكان الذى يعيشون فيه. ثورتان مرا على تاريخ مصر: إحداهما من أجل القضاء على النظام الإقطاعى، والأخرى من أجل العدالة الاجتماعية والمساواة، لكن التاريخ توقف عند عزب وقرى مركز فاقوس بمحافظة الشرقية، فلم يصنع لأهلها لا هذا ولا ذاك، فبقيت على حالها فى عصور الظلام، لم يلحق بها أى نوع من التطور باستثناء قلة من السكان حرصت على أن يلحق ببيوتها طبق الدش ليدخله بعضاً من نسمات التطور، عبر شاشة صغيرة تنقله إلى عالم آخر، يتنفس فيه أمنية واحدة: أن يعيش مثل غيره فى بيت مستقل، له دورة مياه خاصة وحنفية واحدة تسقيه المياه وقتما أراد، أحلام لا تنتهى من عزبة عبدالصمد إلى عزبة الترجمان يجلس منصور أحمد السيد بجوار زوجته فى مدخل منزل متواضع من الطوب الأحمر، «منصور» كان أكثر حظاً من غيره فمنزله ضم غرفتين وصالة صغيرة آثرت زوجته «نوال» أن تربى فيه الطيور لتمدها بكثير من احتياجاتها اليومية وأسرتها. «نوال» ذات الأربعين عاماً، قضت نصف عمرها فى عزبة يلقبونها ب«الوسية»، لديها مهام خاصة، هى وكل ابن أو ابنة لها، بعيداً عن دورها فى الأرض الزراعية من جمع المحصول وفلاحة الأرض، إذ يبدأ عملها بتنقية البذور من الشوائب التى قد تعيق نموها، وتهيئها لزوجها لنثرها فى الأرض، وهى مهمة أساسية إلى جانب رعايته للزرع وريه، يعيش «منصور» نهاره فى الأرض ويعود ليلاً محملاً بتعب يوم شاق، يجلس بين بناته يتذكر تلك اللحظات التى تخرج كل منهن إلى الأرض لتكتمل طاحونة العمل التى تبدأ برب البيت وتنتهى بأصغر طفل لديه إذ يقوم بجمع المحصول مقابل عشرة جنيهات يومياً، دوامة يومية حرمت صغاره من التعليم، وجعلت الأسرة جميعها تسعى فى ساقية واحدة لتروى أعمارهم أرضاً لا يملكون منها شيئاً سوى ربع إنتاج يتحصلون عليه كل موسم زراعة، يكفيهم بالكاد أيامهم فى تلك الوسية. بين نساء «الوسية» يقف «عبدالعزيز» بجوار حماره ينظر خلفه نحو أرض يحفظ كل تقسيمة فيها، زرعها بعرقه، وتكبد مشقتها بصبر دام 29 عاماً كاملة كانت بداية عمله فى عزبة الطناطوة أو «الوسية» كما هو معروف لديهم، تقف كل أحلامه وطموحاته عند حنفية المياه العمومية، يتمنى لو تذكره المسئولون ومنحوه بعضاً من الخدمات المحروم منها هو وغيره من سكان العزبة، يعبر عن حاله وحال غيره فى «الوسية» بعبارات يائسة: «إحنا فى منفى، محدش بيسال فينا»، ويؤكد أن تغيير المسئول من عدمه لم يضف إليه جديداً، فحين يمرض هو أو أحد من أبنائه يلجأ إلى أقرب مستشفى والذى يبعد عن المكان بنحو ثلث ساعة تقريباً فى قرية المنافع. لا أحد هنا يذوق طعماً للخدمات والمرافق، أقصى أحلامهم أن يدوم توصيل المياه لهم عبر حنفية عمومية يتهافت عليها الجميع فى طوابير كل منهم يحمل بيده ما يمكنه من قضاء يومه من المياه ومنهم من يحرص على ملء الزجاجات لأيام قادمة خشية أن تغفلهم الحكومة وتنقطع المياه عن صنبور الحياة الوحيد الذى يعيشون عليه.