الفقر ترف لايملكه من لا يعيشون داخل حدوده ولا يحلمون ألا بالوصول إلي خط الفقر.. وبعض هؤلاء يعيشون بالقرب منا لكننا لانراهم لأنهم لم يفكروا حتي في أن يطرقوا أبوابنا. هذه الحالة النادرة من الفقر المدقع شاهدناها في قري بسيطة بمحافظة الفيوم الأقرب الي القاهرة وتساءلنا: كيف سيكون الحال إذن في القري التي تسكن في حضن الجبل أو تعيش في قلب الصحراء أو في الصعيد الجواني؟! القرية التي زرناها اسمها عزبة داوود وزرنا ايضا قرية مجاورة لها اسمها عزبة الأصفر تكاد تكون نسخة من جارتها: البيوت مبنية من أحجار بأحجام متنوعة بطريقة عشوائية لصقها الأهالي بخلطة من الطين والماء, والجدران بلون الرمل الأصفر من داخل البيوت وخارجها, ومن استطاع من الاهالي الإفلات من قبضة الفقر التي لاترحم بني بيته بطوب أبيض كبير الحجم وكأنه يحلم بتجاوز خط الفقر وتتحول ألوان حياته وبيته من الاصفر الرملي الي الأبيض.. لكن الجميع كل البيوت أرضها من تراب لاتعرف البلاط وكلها مفروشة بحصير بلاستيكي متهالك ووسائد من قطن قديم صار كالحجارة أو أشد قسوة, صحيح الكهرباء دخلت الي بيوتهم وبعضهم يمتلك جهاز تليفزيون يربطه بالعالم الخارجي ويري علي شاشته حياة يحلم بأن يعيشها أحفاده, النوافذ من خشب مشقوق يكشف اكثر مما يستر, يتسرب منه الهواء والحشرات والقوارض, وكذلك الأبواب.. أما الأسقف فهي من الجريد اليابس والعريش والقش وبعض الحزم البالية, كلها لاتقي من شمس ولا تمنع مطرا ولا تحمي من خطر حريق.. الأسوأ هو العتة التي تلتهم عروق الخشب المتهالكة التي تدعم السقف فتعرضه لخطر السقوط المفاجيء.. أيضا لا توجد مياه للشرب في البيوت, فهي ترف لا يملكه هؤلاء البسطاء وربما يكون سبب حرمانهم منها أن بيوتهم مبنية علي أرض مملوكة للدولة ودخول هذا المرفق الحيوي يحتاج بالضرورة الي سند ملكية. هذه صورة عامة للبيوت التي تعكس حالة أهلها الذين لا يعانون الفقر وحده وإنما يعتصرهم المرض أيضا.. وقبل أن نعرض حالة بعض الأسر التي التقينا بها نستعرض حالة مدخل العزبة الترابي الذي يبدو أن آخر مرة امتدت اليه فيها يد العناية كانت منذ عشرات السنين قبل أن يدخل هو والعزبة في طي النسيان.. علي يمين الطريق ترعة مياهها ضحلة تسبح فيها الماشية جنبا الي جنب مع الصبية الصغار. أول بيت زرناه هو منزل أم رضا البيت يشبه الكوة لا تستطيع الدخول اليه بدون أن تنحني, البيت عبارة عن غرفة واحدة ضيقة ودورة مياه مساحتها لا تتجاوز مترا في متر ونصف متر.. كانت تعيش في المنزل أسرة أم رضا التي تتكون من الأم والأب اللذين بلغا من العمر أرذله, ولديهم أربع بنات تزوجن وابنه أخري معاقة ذهنيا.. بعد زواج البنات انتقلت الأسرة الي بيت أكبر مبني من الحجر والطين وسقفه من جريد النخل.. أبو رضا أصبح قعيد المنزل لكبر سنه وعدم قدرته علي العمل, فهو مزارع بالأجر, حتي لو حاول العمل فلا يوجد صاحب أرض بقرية مجاورة يرحب بعمل كبار السن في أرضه. أما أم رضا فهي سيدة مسنة فقدت البصر في إحدي عينيها, ومع أنها تعاني الشيخوخة لكنها تقضي يومها في خدمة ابنتها المعاقة ذهنيا والتي لا تقوي علي خدمة نفسها.. أسرة أم رضا تحصل علي معاش125 جنيها من الضمان الاجتماعي, لا تكاد هذه الجنيهات تكفي لسد رمق أفراد الأسرة الثلاثة. علي بعد خطوات دخلنا منزل أم زينة الأب توفي منذ خمس سنوات, والأم أرملة تحصل علي معاش الضمان الاجتماعي البالغ مائة جنيه فقط.. أما زينة فهي طالبة بالمرحلة الإعدادية كانت قادمة من وسط العزبة تحمل جركن مياه ملأته للتو من الحنفية العمومية الموجودة في وسط القرية ويملأ منها الأهالي المياه الصالحة للشرب والتي حرمت منها بيوتهم المتواضعة. نفس المشهد رأيناه في بيت الحاج رجب الذي يعيش مع زوجته وهما طاعنان في السن حرما من نعمة الإنجاب, يعيشان بمفردهما, كل يوم يتحامل الحاج رجب علي نفسه ويخرج الي نفس الحنفية العمومية في وسط العزبة لاحضار المياه. أما منزل أم مصرية فهو مبني حديثا بعد أن تكفل ازواج بناتها الثماني ببنائه وتحملوا التكاليف معا إكراما لأم مصرية التي يعتبرونها أما لهم جميعا, لهذا حرصوا أيضا علي إدخال الكهرباء الي منزلها. وفي منزل أم حنان وجدنا الأب قعيد الفراش لا يقوي علي العمل, الابناء اثنان: ابراهيم12 سنة وحنان تصغره بعام واحد يعانيان من مرض أنيميا البحر المتوسط ويحتاجان الي علاج مكلف ودائم ونقل دم بشكل مستمر, وهذا لا يتوافر في الفيوم, كما تقول أم حنان التي أضافت: ذهبت بهما الي القاهرة خلال شهر رمضان الماضي سبع مرات وعرضتهما علي الأطباء في مستشفي أبو الريش فإخبروني أن ابنتي تحتاج الي جراحة دقيقة في الغدة الدرقية, ولكنهم طلبوا مني الحضور بعد إحضار كيس الدم وتصل معدلات التحليل الي المستوي اللازم قبل اجراء الجراحة, وقد سألنا عن اكياس الدم فقيل لنا ان ثمن الكيس الواحد185 جنيها وهو مبلغ لانملكه فما معي من مال يكاد يكفي مصاريف الحضور الي القاهرة والذهاب الي المستشفي. وفي منزل عيده أحمد محمود التقينا بها, هي أم لأربعة أيتام: محاسن التي تزوجت بعد حصولها علي الشهادة الاعدادية وتعيش مع زوجها, وأحمد في الدبلوم, وكريمة في الصف الثاني الاعدادي, والأصغر يوسف عمره ست سنوات, كان عمره ستة أشهر عندما توفي والده في حادث سيارة, الأم تحصل علي معاش الضامن الذي لايتجاوز160 جنيها شهريا, حقا لايكاد يكفيهم للقوت الضروري, لكنها رفضت أن يعمل أحد من أبنائها وأصرت علي تعليمهم حتي يجدوا فرص عمل أفضل ويكسروا قيود الفقر التي تكبلهم وتكاد تخنقهم.. الأم وجدت بعض المساعدة من أهل الخير كما وجدت الاسر الأخري أيادي ممدودة اليهم من بعض الجمعيات الخيرية التي وصل شبابها الي القرية واكتشفوها, ومنهم المحاسب اسماعيل حماد الذي قال: البداية كانت عندما تعرفت مع مجموعة من أصدقائي علي أستاذ جامعي بكلية الزراعة دلنا علي قري ومناطق يعيش فيها مواطنون يستحقون مساعدتنا, وبعد أن رأينا الحال علي الطبيعة بدأنا نجمع المال والملابس والطعام من معارفنا والمحيطين بنا وبعد ذلك كونا مجموعات عمل لشراء الأطعمة والمواد الغذائية بسعر الجملة, وتعبئتها في اكياس وشنط, والبعض يجمع الملابس المستعملة, والبعض الآخر يجمع المال لشراء اللحوم, والحقيقة أن هؤلاء الناس لا يسألون أحدا ولا يطلبون مساعدة من أحد.. فهم لايملكون المال حقا ولكنهم يملكون عزة النفس.. لكن كما يقول محمد عنتر أحد سكان القرية المشكلة هي أن الجدران البالية التي تأويهم لا يهددها خطر السقوط والانهيار في أي لحظة وحسب, ولكن المشكلة أن الأرض التي تقام عليها بيوتهم مملوكة للدولة, ويوجد بالقرب منها منطقة صناعية ربما يتم التوسع فيها بضم هذه الأرض وهدم بيوتهم وهذا مايخشونه رغم أن الحكومة تؤجر لهم الأرض برسوم سنوية تبلغ5 جنيهات للمتر الربع الواحد, لكن ظروفهم القاسية جعلتهم يتعثرون في سداد هذه الرسوم ولهذا يخافون من يوم يتم فيه طردهم وهدم بيوتهم وحرمانهم من نعمة البيت.