الهجرة رحلة وانتقال.. قد تكون عبر المكان أو الزمان، وقد تكون تغيراً من حال إلى حال، دون مغادرة المكان.. هى سنة ربانية يقوم بها الإنسان والحيوان والطير.. وبقدر ما هى سنة ربانية، هى ضرورة لازمة فى أحوال كثيرة.. فالإنسان فى حاجة إلى الهجرة حين تضيق به السبل، والحيوان أيضاً فى حاجة إليها حين يستشعر خطورة على حياته.. كذلك الطير.. هناك هجرات إلى الشمال، وهجرات إلى الجنوب، وهجرات إلى الشرق أو الغرب، وهكذا.. قراءة التاريخ القديم والحديث لمعرفة ما جرى فى هذه الحقبة أو تلك، واستخلاص الدروس والعبر، هى رحلة وانتقال عبر الزمان.. كما أن هجر العادات السيئة والسلوك القبيح، إلى العادات الطيبة والسلوك الحسن، يعتبر نوعاً من الهجرة فى عالم القيم والمبادئ والأخلاق. قد تكون الهجرة دائمة ومستمرة، وقد تكون لفترة زمنية محدودة.. وقد تكون عملاً واجباً، أو مندوباً، أو مستحباً، أو أمراً مباحاً، أو منهياً عنها.. ويختلف الحكم حسب الزمان والمكان والظرف والحال.. ومن ثم فالتعامل مع النصوص، قرآناً أو حديثاً، يجب أن يكون بعلم وفهم وفقه، حتى يستخدم النص فى زمانه ومكانه الصحيحين، ولا يتيسر ذلك إلا لأصحاب العلم والتقى والورع.. مثلاً، يقول تعالى: «إن الذين توفاهم الملائكة ظالمى أنفسهم قالوا فيم كنتم. قالوا كنا مستضعفين فى الأرض. قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها. فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً» (النساء: 97).. ويقول أيضاً: «والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شىء حتى يهاجروا» (الأنفال: 72).. وفى الحديث: «لا هجرة بعد الفتح»، وفى حديث آخر: «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها»، وقد سئل النبى (ص): «أى الهجرة أفضل؟ قال: أن تهجر ما كره ربك».. وهكذا تتعدد المعانى وتتباين المقاصد حسب الظروف والأحوال.. وذلك يتطلب منا حذراً شديداً فى الاستشهاد بالنصوص. أقصد بالهجرة إلى الجنوب الشرقى، الرحلة والانتقال من القاهرة إلى مكة بهدف أداء العمرة.. ففى يوم الأربعاء الماضى، غادرنا أنا وزوجتى وإحدى بناتى القاهرة قاصدين أولاً مدينة الحبيب صلى الله عليه وسلم.. كانت آخر زيارة لى عام 1988.. وفى يوم الاثنين انتقلنا إلى مكة، أحب بلاد الله إلى قلب رسوله (صلى الله عليه وسلم).. لذا كنا سعداء، رغم ما كنا نحمل معنا من القاهرة من آلام وأحزان وأوجاع.. حقيقة كنا فى أمس الحاجة إلى عملية غسيل للروح وتطهير للقلب وتزكية للنفس.. مع ذلك، لم نبتعد كثيراً ولا قليلاً عن مصر، فقد كانت مشاعرنا معها طول الوقت.. استهلكنا وقتاً ليس بالقليل فى الحديث عما يحدث فى مصر وإلى أين هى ذاهبة مع كل من التقيناه، مصرياً كان أو غير مصرى.. الكل قلق على مصر، ولا غرابة فى ذلك.. فمصر كانت ولا تزال وسوف تظل فى القلب.. كان هناك شبه إجماع على ضرورة حدوث شراكة وطنية حقيقية، فالتحديات التى تواجه مصر شرسة وضارية ولن يستطيع تيار واحد مهما كان حجمه أو وزنه أن يتحمل تبعتها.. حملنا كثيراً ممن نعرف بالدعاء لمصر.. والحقيقة أننا لم ندخر وسعاً فى الدعاء لها فى الروضة الشريفة، أن يرزق الله مصر وأهلها الحكمة والرشد والسداد، وأن يحفظها ويقيها من كل سوء، وأن يجنبها الفتن ما ظهر منها وما بطن، ونسأل الله تعالى أن يتقبل.