سأحدثكم عن فتى مصرى، كأن الطبيعة أنجبته من مخاضات الملح الفرات والعذب الأجاج فوق طين أخضر، ثم وهبته الحياة بصراً بامتداد البحر والنيل والبحيرة والصحراء، وبصيرة بحجم الكون، فنما كفسيلة تحمل كل جينات التنوُّع، تعمد بالماء والرمل وغب فى الطين البرلسى، حتى كان فطامه تمراً ويوسيفياً وفواكه بحر.. ونشأ الفتى على زاد مائدة السماء فقيراً، ككل أبناء الشعب، غنياً بالمدد، قضى شطر حياته الأول متأملاً ارتطام الموج على الشطآن، مترقباً خروج عرائس البحر إليه، فصلى وصام واستقام وابتسم وكتب الأشعار، حتى أصبح مؤهلاً لحمل كل الأمانات مستعيناً بمولاه وأوليائه، فاصطف الناس حوله وخلفه كالإمام يصلى حيناً لغيث السماء، وحينا خلف جنازات الشهداء. ومن بلطيم إلى القاهرة كانت الرحلة كأنها معراج من ثغر حدودى لسدرة الوطن الأكبر، أحب «ناصر الفقراء»، فأصبح الفتى نصيراً لهم، وفى الجامعة كان طبيعياً أن ينجح فى استفتاء المحبة، ويحظى بثقة كل أقرانه من يسار ويمين ومستقلين وإخوان، فيصبح رئيساً لاتحاد طلاب جامعة القاهرة، ويبدأ رحلة كبرى فى النضال لاسترداد الحقوق، من حق المواطن إلى حق الوطن، ومن حقوق العمال والفلاحين والطلاب والصيادين إلى حقوق الأمة فى التوحُّد والوطن فى استقلال الإرادة. عرف أن خير الكلام كلمة تقال أمام سلطان جائر، فجار بها أمام كل السلاطين الجائرين من السادات إلى مبارك إلى مرسى، وكلهم فى الاستبداد سواء، ولم يكن من مسعاه الرافض اغتصاب الحقوق فظاً غليظ القلب، بل كان -دائماً- حازماً شارحاً قوى الحجة والبيان، صلباً لا ينكسر، وليناً لكنه قاطع، وفى كل الحالات هو سلمى لا يسالم ولا يساوم، تعلّم منذ نعومة الأظفار دفع الضريبة، وزهد الغنيمة، عرفته سجون السادات ومبارك وربما تنتظره سجون المرشد، لكنه يظل كسمته الدائم مبتسماً راضياً مرضياً، ويجمع بين التحدى والكبرياء فى باقة حب واثق بالله والوطن. لا يعرف الناس عنه لحظات البكاء والنشيج، وهى ثلاث، الأولى أن تراه دامعاً يلوذ بالمحراب فى مسجد نفيسة العلم أو سيد الشهداء أو رئيسة الديوان، والثانية أن تراه معذباً فى غياهب السجن، كيوم ضربه جندى الليمان ببيادته تعذيباً ونكالا ًأثناء حبسه متهماً بقيادة الفلاحين احتجاجاً على القانون الجائر بطردهم من جنة أرضهم، والمسمى بقانون العلاقة بين المالك والمستأجر فى الأرض الزراعية، ساعتها ظل حارس السجن يضرب بمنتهى القسوة حتى تفجّرت ينابيع الدمع فى عين الفتى وقلبه، ولم يبكِ من شدة الضرب، بل من فداحة المفارقة قائلاً له: لا تضرب يا ابن الفلاحين، لقد جئت هنا من أجلك ومن أجل حقك. أما الثالثة فساعة الفقْد، تراه باكياً ضارعاً عند رحيل الرفاق وصعود الشهداء، وكأنه يذرف دمعتين ووردة، دمعة للفقْد وثانية للقضاء، أما الوردة فرسالة العوض وثأر الحياة من كارهيها. نعم أحدثكم عن حمدين عبدالعاطى صباحى أخى ورفيقى، وسهم كنانة الله مصر، الكثير لا يعرف وهو لا يقول، لكنى سأفشى عنه سراً، حينما عُرضت عليه بطاح النفط ذهباً، لا ليسكت عن أمر التغيير والثورة، بل لدعم الاستمرار فيها، وكان ذلك فى منتصف الثمانينات، فقال قولته للحاكم العربى «أنا لا أقبل الوطنية بالأجر»، واندهش الحاكم، وشعر بالإهانة الشديدة من رد حمدين، لكنه لم ييأس وظل يحاول بعدها، كما حاول آخرون من مسئولين فى عواصم أخرى، وكان الجواب دائماً «نحن فقراء نعم، لكننا نرفض النضال بالأجر أو بالإيجار». .. خاض كل معاركه منذ الانتخابات الطلابية للانتخابات الرئاسية، مروراً بانتخابات مجلس الشعب أربع مرات، دون وجود رصيد مالى بحجم أى معركة سوى ما يملكه فى بنك الحب من كنوز العطاء والصدق والمصداقية، وكانت مفاجأة بمقاييس هواة الأرقام والتحليلات الباردة والاستطلاعات المعلّبة، حصوله فى انتخابات الرئاسة على خمسة ملايين صوت دون وجود أرصدة مليونية أو دعم خارجى بأجندة أمريكية أو بترولية، ودون تنظيم يمتد رأسياً وأفقياً فى كل مكان، فرأسماله زاد المحبين، الذين رأوا فى أفعاله وأقواله ما يليق بطموحهم ويحقق مطالبهم ويستعيد حقوقهم الضائعة أو المسكوت عنها. هذا الغنى بسيرته وثورته، رأيته باكياً بعد أسبوع الدماء والجنازات فى التحرير و«الاتحادية» ومدن القناة والغربية والإسكندرية، يلفه ألم لا يُحتمل وتحديات تفوق قدرة الجبال، لا لأنه فقدَ فى يوم واحد ثلاثة من أعز أبنائه «محمد الجندى وعمرو سعد ومحمد كريستى»، فقد تعود على صبر الشدائد وصلابة المحن، لكنه بكى حينما وجد رأسه وقلبه محاصرين بحزن الثكالى من الأمهات، ونداءات شديدة اللهجة من شباب الثورة والتيار، للتقدم إلى خط المواجهة الأول والعبور على أى توازنات، وكذلك حسابات التوافق السياسى والجبهوى، وهجوم زبانية القصر الرئاسى وفتاوى القتل وبلاغات الاعتقال واتهامات التخريب والعنف. وبعد صمت حزين وطويل تحدث بأسى نبيل عن رغبته فى الانسحاب، لأنه لا يريد لهذا الصخب والاستقطابات الحادة العنيفة أن تسرق منه سكينته التى لا تفارقه فى الحل والترحال. لكنه بعد دقائق وحينما استمع إلى صوت أذان المغرب، اعتدل فى جلسته مردداً خلف المؤذن، لحظتها جاءت حفيدته (حلم) مهرولة، فاحتضنها بدفء، وقام للصلاة مع (حى على الصلاة.. حى على الفلاح) كأنه قد تقيأ فى لحظة واحدة كل أوجاعه، حينها بكيتُ من فرط الرضا وصليتُ خلفه.