الإجراءات العقابية التى فرضتها روسيا على تركيا بعد إسقاط طائرتها فى 24 نوفمبر 2015، أحدثت آثاراً عكسية، حتى وصفها ديمترى مدفيدف، رئيس الوزراء، بأنها «ليست عقوبات بقدر ما هى رد فعل دفاعى».. وقف الواردات الزراعية اضطر المواطنين إلى شراء الخضر والفواكه ب«الحبة» نتيجة نقصها وارتفاع أسعارها.. فرض تأشيرة دخول، وتقييد قواعد إقامة الأتراك، وحظر نشاط شركاتهم، أثر بالسلب على معدلات تنفيذ المشاريع الإنشائية المرتبطة بكأس العالم 2018، التى تضطلع الشركات التركية بدور رئيسى فيها.. منع السياحة لتركيا لم يوقف استنزاف العملات الصعبة، لأن السائحين الروس اتجهوا إلى اليونان وقبرص، وتجاهلوا دعوة الدولة للسياحة الداخلية.. إلغاء نسبة التخفيض «10.25%»، التى تمنحها روسيا إلى الشركات التركية المستوردة للغاز، دفعها لزيادة الاعتماد على نفط إيران وكردستان العراق.. التوقّف عن استكمال بناء روسيا محطة الطاقة النووية فى تركيا، تترتب عليه خسارة استثمارات بالمشروع تتجاوز مليار دولار، ويحملها شروط جزائية تصل إلى 15 ملياراً. تعليق مشروع السيل التركى لتوصيل الغاز الروسى لليونان وأوروبا عبر الحدود التركية، تزامن مع التنسيق بين إسرائيل وقبرص واليونان لتصدير غاز المتوسط إلى أوروبا عبر الأخيرة، ومباحثات التطبيع بين تركيا وإسرائيل تضمّنت تصدير الغاز إلى تركيا، مما يعنى فى النهاية خسارة روسيا أسواقها الرئيسية فى أوروبا.. كل الحسابات الاستراتيجية الهادئة أكدت خطأ مقاطعة تركيا التى تربطها بروسيا علاقات تجارية تتجاوز 30 مليار دولار سنوياً، وهى عضو «الناتو» الوحيد الذى رفض الانضمام إلى العقوبات الغربية بسبب المشكلة الأوكرانية، رغم جهود الحلف لاستكمال حصارها بمحاولاته ضم فنلندا وأوكرانيا وجورجيا. من ناحية أخرى، فإن الحسابات التركية باءت بالفشل؛ خاطرت بعلاقاتها الاستراتيجية مع روسيا، وراهنت على إسقاط الطائرة الروسية لفرض واقع جديد لتوازن القوى، وتوريط أمريكا والناتو فى دعمها، مما قد يسمح لها بتنفيذ المنطقة العازلة، ولعب دور رئيسى فى التسوية، لكن ما حدث أن كل أوراق الأزمة آلت إلى روسياوأمريكا، واستبعدوها، وحُرِمَت من طلعات الاستطلاع المعتادة فى المجال الجوى السورى، وفُضِحَت علاقات التعاون بينها وبين التنظيمات الإرهابية، وأخذت ملامح الدولة الكردية تتشكّل بقوة على حدودها الجنوبية، وتعرّضت لعمليات إرهابية ضخمة فى إسطنبول وأنقرة، تتعدّد فيها الجهات المحتمل تورطها، بما فى ذلك المخابرات الروسية.. راهنت على دخول الاتحاد الأوروبى مكافأة لما قدمته للغرب من خدمات، لكنها فوجئت بخروج بريطانيا، وبروز ملامح تفكُّك الاتحاد.. وقمة شنغهاى، أكبر تكتل اقتصادى عالمى لإعادة تشكيل موازين القوى منعتها من الحضور، وقُبِلَت عضوية إيران، وضمّت مصر كمراقب. الطرفان حرصا على تجنُّب تصعيد الأزمة؛ «أردوغان» ظل يحاول الاتصال ب«بوتين» للاعتذار، وروسيا شجّعت لقاءات الملحق العسكرى الروسى بأنقرة مع قيادات الطيران التركى التى أسفرت عن فتح خط أحمر لاتصالات الطوارئ بين القادة العسكريين بالدولتين، وتعديل قواعد الاشتباك فوق سوريا، بسحب تفويض إطلاق النار من الطيار، ومنحه لقائد القوات الجوية، كما استثنت بعض المنتجات الزراعية وشركات المقاولات التركية من القيود، وأعادت العمل باتفاقية «الأجواء المفتوحة»، وسمحت للطائرات التركية باستئناف طلعاتها فوق الأراضى الروسية.. ماريا زاهاروفا الناطقة الرسمية للخارجية الروسية زارت تركيا أواخر مارس، وأكدت أن «الأزمة مؤقتة»، ولجنة عسكرية روسية، زارت مدرسة مشاة البحرية التركية.. روسيا رفعت الحظر على سفر سائحيها لتركيا، وتركيا تبحث إغلاق حدودها أمام الإرهابيين، ومنح روسيا تسهيلات بقاعدة أنجيرليك، تستخدمها ضد «داعش»، وتزامن رفع الحظر مع الهجمات الإرهابية على مطار أتاتورك الدولى، ليعكس تغليب الاعتبارات السياسية على المخاوف الأمنية، خلافاً للتشدُّد مع مصر.. تصالح المصالح يفرض نفسه، وعلينا أن نستوعب الدروس. ■ ■ ■ تركيا -تحت حكم «العدالة والتنمية»- تصدّرت محاولات أسطول «الحرية» رفع الحصار الإسرائيلى عن غزة، تحت حكم «حماس»، فرع «الإخوان»، وانتهت بالصدام العسكرى مايو 2010، بعدها بشهرين التقى وزير الخارجية التركى بوزير الصناعة الإسرائيلى لبحث آليات احتواء الأزمة، إلا أن عواصف الربيع العربى 2011، دفعت تركيا إلى التصعيد، لتشكيل واجهة سياسية، تسمح بتوظيف صعود تيار الإسلام السياسى بالمنطقة، فى استعادة وضعها القيادى، كمركز للخلافة، وبديل للمشروعات التى تطرحها الجماعات التكفيرية، مما يفسّر عدم إتمام المصالحة السياسية، رغم اعتذار «نتنياهو» ل«أردوغان» بحضور «أوباما» مارس 2013، واستمرار العلاقات الاستراتيجية «التقاء هاكان فيدان رئيس المخابرات التركية بنظيره الإسرائيلى تايمر باردو بالقاهرة خلال زيارة أردوغان سبتمبر 2011، اعتذار أردوغان عن تصريحه بأن (الصهيونية لا تختلف عن النازية)، شراء تركيا طائرات أواكس ب100 مليون دولار لتطوير دفاعها الجوى من شركة ألتا الإسرائيلية، موافقة تركيا على استفادة إسرائيل من المعلومات الأمنية الناتجة عن نشاط «الناتو» بأراضيها، زيادة التبادل التجارى من مليار و800 مليون دولار 2011، إلى 5.5 مليار 2015». التدخل الروسى فى سوريا سبتمبر 2015 هدّد مصالح الطرفين، أضعف الدور الإقليمى لتركيا، ورجح كفة النظام السورى بالتعاون مع إيران وحزب الله فى مواجهة التنظيمات الإرهابية، وحرك ورقة الأكراد، حتى باتت تركيا تعد لخوض معركة حاسمة مع حزب العمال الكردستانى فى الداخل، وطموح حزب الاتحاد الديمقراطى الكردى السورى فى إقامة دولة كردية تمتد من حدود العراق إلى البحر المتوسط شمال سوريا.. ومع أفول نجم الربيع العربى، وضياع حلم الخلافة، اتجهت تركيا إلى تطبيع علاقاتها بإسرائيل، للاستفادة من متابعتها مختلف التنظيمات الكردية، وقطع الطريق أمام اليونان التى تحاول القفز على دورها التقليدى كمعبر للغاز الإسرائيلى إلى أوروبا.. اتفاق التطبيع فى 10 يونيو بروما تضمّن تنازلات تركية كثيرة، أبرزها أن اعتذار إسرائيل جاء شفهياً وليس مكتوباً، خلا من شرط رفع الحصار عن غزة، ألغى إجراءات التقاضى أمام المحاكم التركية ضد الجنرالات الإسرائيليين المتورطين فى الاعتداء، وأسقط مطلب محاكمتهم دولياً. ■ ■ ■ التطبيع التركى مع روسيا وإسرائيل تم بالتوازى، زمنياً وسياسياً، وتزامن مع تطور استراتيجى مماثل فى العلاقات الروسية الإسرائيلية، تضمن التعاون لتطوير حقول غاز شرق المتوسط، وإجراء مناورات بحرية وجوية مشتركة لتأمينها!!.. الانقلاب التركى لم يقتصر على روسيا وإسرائيل، إنما امتد لمحاولة إيجاد منطقة نفوذ تركى بالجزيرة العربية والخليج، من خلال اتفاق «مجلس التنسيق التركى - السعودى» أبريل الماضى، والشروع فى بناء قاعدة عسكرية تركية ضخمة فى قطر، ووضع آلية تنسيق منتظم مع دول مجلس التعاون.. تغيُّرات استراتيجية بالغة الحدة، تجرى من حولنا، تدفعنا للبحث والتأمل، عن كيفية تعزيز الثقل السياسى المصرى، ضمن دائرة اهتمام روسيا من ناحية، والسعودية ودول الخليج من ناحية أخرى، فمؤشرات تآكله تبدو مقلقة، وتستحق الاهتمام.