لا يمكن أن نصدق أن كل العنف ومظاهر الفوضى هى من نتاج «البلاك بلوك»، والجماعات الفوضوية والبلطجية وصبية الشوارع؛ لأن العنف أكبر من كل هذه الجماعات. أولاًَ: هو حاصل تفاعل الشعور الجمعى لقطاعات واسعة من المصريين بخيبة الأمل فى الثورة، واليأس فى المستقبل، فالاقتصاد على وشك الانهيار، والفقر والبطالة فى ارتفاع، وتهميش الشباب والمرأة والأقباط مستمر، والنخبة منقسمة على نفسها، والحكم الجديد يستنسخ أساليب مبارك، وفى مقدمتها الهيمنة وتجاهل المعارضة، علاوة على ممارسة الكذب والتضليل. ثانياًَ: العنف والفوضى رد فعل على انفراد الإخوان بالحكم، من دون كفاءة أو خبرة، وبالتالى فشلهم فى مواجهة الأزمات أو حل مشاكل الوطن. لقد تحول الرئيس وجماعته إلى أحد أسباب تفجير الأزمات، ونموذج ملهم لعدم احترام القانون وممارسة العنف اللفظى والمادى، فالرئيس المنتخب وفق الشرعية القانونية انقلب عليها وأصدر الإعلان الدستورى وفق شرعية الثورة، والذى انتهك فيه حرية واستقلال القضاء. ثم إن الرئيس سمح لجماعته بحصار الدستورية ولم يحاسبها على معركة الاتحادية. ثالثاًَ: العنف والفوضى نتاج تقصير القوى المدنية فى رفض حصار الاتحادية والمنشآت العامة والاعتصام فى التحرير لأسابيع طويلة، وفشل تلك القوى فى احتواء الشباب والجماعات الثورية، والارتفاع بمستوى وعيها السياسى، والأخطر تأخر جبهة الإنقاذ فى إدانة العنف والفوضى أثناء مظاهرات الذكرى الثانية للثورة. رابعاًَ: العنف والفوضى رد فعل طبيعى على غياب الشرطة عن الشارع، ما شجع على تعميم العنف وتحوله إلى ممارسة يومية شائعة فى حياتنا اليومية، والمفارقة أن الشرطة عادت بقوة لقمع المتظاهرين والتعامل بقوة مفرطة وممنهجة ضدهم. طبعاً من حق الشرطة اللجوء للعنف لمواجهة التخريب والفوضى، ولكن هناك أنواعاًَ ودرجات من العنف المقنن (عنف الشرطة) لا تؤدى إلى سقوط عشرات القتلى ومئات الجرحى فى ربوع مصر، ما يؤكد أن الشرطة لم تتغير فكراً وسلوكاً، وما تزال تنتمى للماضى. خامساً: العنف والفوضى ارتبطا بالثورة منذ 25 يناير وحتى الآن، وليس من المقبول ادعاء أن ثورتنا سلمية تماماً، صحيح أن مستويات العنف اللفظى والمادى أقل من بقية ثورات الربيع العربى، لكن لا بد من الاعتراف أن ثورتنا عرفت عنف الأمن ضد المتظاهرين، وعنف وفوضى اقتحام أقسام الشرطة والسجون، وقطع الطرق والبلطجة والسرقات بأنواعها، وتهريب الأسلحة، ثم عنف الجيش فى ماسبيرو، وصولاً للمعارك العبثية بين الشرطة والمتظاهرين فى محمد محمود وقصر العينى والتحرير، وموقعة الاتحادية، وأخيراً اشتباكات الذكرى الثانية للثورة. لا بد من الاعتراف بكل ذلك والتخلى عن خطاب سلمية ثورتنا، وأن الطرف الثالث وحماس وحزب الله كانوا وراء العنف. العوامل الخمسة تساعد فى فهم بواعث العنف فى البيئتين السياسية والاجتماعية، لكنها لا يمكن أن تبرر ما يجرى؛ لأنه يقوض أركان الدولة ويهدد الأمن القومى ويسير بالوطن ناحية الحرب الأهلية، وبالتالى لا بد من التعامل الجاد والفورى مع كل مسببات وبواعث العنف وهى كثيرة ومتداخلة -أشرت لخمسة منها- وتتطلب تحركاً سريعاً من قبل نخبة الحكم والمعارضة والمجتمع المدنى والإعلام، بحيث يتحمل كل طرف مسئوليته التاريخية والأخلاقية، ويمارس فى شجاعة النقد الذاتى والمراجعة لمواقفه السابقة خلال عامى الثورة؛ لأن كل الأطراف تورطت فى إنتاج وتداول خطابات تحض على كراهية الآخر، وتشويهه، وتعمق من الانقسام المجتمعى. لا بد من الاعتذار عن كل هذه الممارسات، وتعلم فضيلة الحوار البناء القائم على تفهم الآخر وتقديم تنازلات من أجل مصلحة الوطن، والتنازل من أجل التوصل لحلول وسط، وعلى الرئيس وجماعته بحكم وجودهما فى السلطة أن يبادرا فى اتجاه الحل السياسى، مع التخلى عن الحلول الأمنية التى لا تجدى، ثم على المعارضة والقوى المدنية أن تستجيب وتبادر بتقديم تنازلات؛ لأن المباريات الصفرية بين الحكم والمعارضة تقود الوطن إلى كارثة الانهيار، خاصة أن مشاكل مصر أكبر من أى فصيل سياسى، ولا شك أن الحل السياسى سيمكّن من سرعة مواجهة الأزمة الاقتصادية وتحقيق العدالة الاجتماعية التى يمكن من خلالها فقط القضاء على بواعث العنف والفوضى فى المجتمع ودعم قيم الديمقراطية.