بجسده النحيل وشاربه الكث وقسمات وجهه المنحوتة بحرفية تعكس ملامحه الصعيدية، يسير «عم ربيع»، الرجل السبعينى، بخطوات متباطئة نحو إحدى السيارات، يستوقفها، وما هى إلا ثوان حتى يسأل سائقها: «تركن يا باشا.. تعالى هنا جنب الرصيف عشان متاخدش مخالفة»، ينظر سائق السيارة إلى الرجل ويتتبع يديه: «أيوه.. تعالى يا باشا شويه ورا.. بس.. تمام كده»، يقفز بعدها الرجل المسن بخطوات رشيقة إلى مقدمة السيارة ويأخذ من يد السائق جنيهين ثمن إنقاذه من كلابش المرور. عندما جاء عم ربيع إلى مصر قادماً من أقاصى الصعيد فى خمسينات القرن الماضى، وجد ضالته فى تلك الغرفة المتواضعة تحت سلالم عمارة عريقة فى حى جاردن سيتى، عمل حارسا لهذا العقار الذى آواه من غدر انفتاح العاصمة الكبرى التى كانت بالنسبة له مغارة لا يعرف محتواها، وكان يتقاضى مقابل عمله 12 جنيها: «كانت الفلوس فيها بركة ومكفيانى والحمد لله.. الله يرحم الرئيس جمال عبدالناصر.. ما كانش مخلى الفقير يبات جعان»، وعندما اندلعت حرب 67 أصبحت غرفته التى تنخفض عن الأرض بضعة سنتيمترات ملاذا للعديد من الأهالى هرباً من الغارات المستمرة للقوات الإسرائيلية. مع مرور الوقت شعر «ربيع» الشاب بأن الوقت حان للزواج، وكان مضطراً أن يعود إلى بلدته القديمة فى محافظة المنيا حتى يتم زواجه وسط أهله، تزوج ورزقه الله ب 4 بنات، وزادت الأعباء على كتف الرجل المسن حتى انحنى جسده، متذكرا نشأته وتربيته بين فيلات ذلك الحى العريق، الذى تحول إلى جراجات ومناشر غسيل: «زمان كان فين وفين لما بتعدى عربية.. دلوقتى بتوع العربيات الكارو وبياعين العرقسوس بقوا زى الهم عالقلب.. الحى تحول من جاردن سيتى إلى غوغاء سيتى». «ليلى مراد.. فتحى سرور.. كمال الشاذلى».. شخصيات تعامل معها عم «ربيع» بنفسه خلال عمله فى المنطقة، علاوة على هوانم جاردن سيتى اللائى يعرفنه شخصياً، وبالرغم من الفارق الشاسع بين الطبقتين فإنهما يترحمان سوياً على الحى الذى تدهور حاله، وهجر معظم سكانه فيلاتهم للبحث عن جاردن سيتى زمان. «وقف الحال» كان سبباً فى محاولة عم «ربيع» تحسين دخله الذى لم يعد يكفى احتياجات أسرته، وأمام هذا المنزل العريق اعتاد أن يقوم كل يوم بإعادة صف السيارات للحصول فقط على مبلغ زهيد يساعده: «مش بحب الديون.. محدش ليه عندى جنيه.. ومادام أنا عندى صحة يبقى ليه أنام فى الخط.. وكله عشان عيالى». ولأنه قريب من ميدان التحرير، فرائحة الدماء الذكية التى سالت على أسفلته زحفت حتى وصلت إلى تلك الغرفة الصغيرة التى تضم أسرة عم ربيع: «الثورة كويسة.. والله يرحم الشهدا.. والحمد لله إن حصلت انتخابات رئاسية قبل ما أموت.. لكن قدرنا إن إحنا نختار بين اتنين غير مقبولين فى الشارع.. كان نفسى ييجى حمدون (هكذا نطقها) صباحى.. لأنه واحد مننا». طوال حياة عم «ربيع» مر بلحظات قاسية عانى فيها الكثير، يوم جوع ويوم عطش، لذا لا يحتاج إلى أى شىء من الدنيا، فعمره ضاع بين جنبات فيلل جاردن سيتى، وكل ما يتمناه أن يزوج بناته الأربع، خاصة أنه العائل الوحيد لأسرته: «نفسى فى حاجة مقلقش بيها على بناتى بعد ما أموت.. أنا خلاص بلعب فى الوقت الضايع».