شعرت بحالة من السعادة والأسى خلال متابعتى لافتتاح مشروع «الأسمرات» بهضبة المقطم، فلم أكن أتصور أن تتمكن الدولة خلال تلك الفترة الوجيزة من إنجاز هذا المشروع التنموى الإنسانى والحضارى، غير المسبوق فى تاريخ الإسكان الاجتماعى بمصر، بالرغم من الظروف الاقتصادية الصعبة والطاحنة التى يمر بها الوطن. كما لم يخطر بخيالى أن يأتى اليوم الذى نشهد فيه اهتماماً حقيقياً من الدولة بتلك الفئات الفقيرة، التى تعيش على هامش المجتمع داخل عشش ومساكن عشوائية غير صالحة للاستخدام الآدمى، وألا تكتفى الحكومة فقط بتوفير جدران وأسقف إيواء تحميهم من برد الشتاء وقيظ الصيف، وتؤمن أرواحهم من فورات وثورات غضب «جبل» لا يرحم من ضاقت بهم سبل العيش، ولم يجدوا سوى حضن الجبل ليؤويهم!! وإنما حققت لهؤلاء البشر المطحونين نقلة اجتماعية تضمن لهم سبل العيش الكريم، من مدارس وملاعب ووحدات صحية وخدمات تجارية وترفيهية. لكن ما أخشاه حقاً أن يتحول هذا الجهد وتلك الأموال إلى وسيلة للمتاجرة والاستغلال و«الاستنطاع»، ونجد المساكن تباع وتؤجر من الباطن، والبيوت تحولت إلى ورش تصنيع، ويعود المستفيدون منها مرة أخرى إلى العشوائيات التى أدمنوها، ولا تحدثونى عن الضوابط والشروط التى تضعها أجهزة الدولة فنحن شعب بارع فى التحايل على القوانين!! وقد صدق حدسى وتأكدت ظنونى بعد قراءة أحاديث لبعض سكان حى منشأة ناصر الذى يقطنه أكثر من 300 ألف إنسان، وتابعت على صفحات «المصرى اليوم» تحقيق الزميلة الصحفية «ولاء نبيل»، وكلام الأهالى الذين يعيشون هم وأطفالهم حياة بائسة على حافة الجبل والموت والخطر، وإصرارهم على البقاء وسط الرطوبة وروائح المجارى الكريهة وتلال القمامة القميئة، ورفض فكرة الانتقال من مساكنهم، وافتعال المشاكل والأزمات مع المسئولين! ويا للعجب حين تقرأ كلمات من يرفض الانتقال بحجة أن منزله لا يوجد به شروخ لأنه مبنى من الحجر بمدخل شارع رئيسى، ويزعم أنها منطقة غير قابلة للانهيار! وآخر يشترط أن يخصص له محل قبل التفكير فى الانتقال، والسبب أن لديه 3 أبناء «صنايعية»!! ومنهم من يرفض شقة الحكومة لأنه صمم بيته فى هذه المنطقة العشوائية بطريقة تسمح له باستيعاب أبنائه الثلاثة حينما يقررون الزواج!! واعترض شخص آخر على تملك الشقق نظير قيمة إيجارية، لأنهم يعيشون بالدويقة فى منازل يمتلكونها بمستندات رسمية، بعد أن سددوا للدولة 5 جنيهات كإجراءات للتمليك تمكنوا بعدها من توصيل عدادات الكهرباء، لكنهم لم يتمكنوا من توصيل المياه والصرف الصحى، ويطالب الدولة بتوصيل المرافق!! ولا يختلف الحال مع امرأة تقطن منزلاً بالدويقة حجراته متواضعة، وجدرانه لا يزيد ارتفاعها على متر ونصف، لكنها ترفض الانتقال إلى الشقة الجديدة، لا لشىء سوى أنها تتمكن فى مسكنها الحالى من رؤية أحفادها أمام عينيها كل ساعة! وسيدة أخرى مطلقة وتعول أبناءها الأربعة تتحدى قرارات إزالة العشوائيات، وتشترط توفير 3 وحدات مستقلة وليس شقة واحدة، لكى تنتقل معها شقيقتاها ووالدتها اللاتى يقمن معها فى نفس المسكن!! وما يزيد الطين بلة تصريحات هؤلاء بأن الذين تسلموا شقق فى مدينة 6 أكتوبر، وساهمت المحافظة فى نقل أغراضهم بسياراتها، عادوا مرة أخرى إلى الدويقة، لأنهم وجدوا الشقق صغيرة!! تلك كانت عينة من كلام مواطنين يقطنون منطقة تمثل خطورة من الدرجة الأولى، ويرفضون فرصة عظيمة للعيش فى مجتمع سكنى متكامل الخدمات، بموقع متميز يرتبط بشبكة طرق ومواصلات. إننى أدرك الجهود المضنية التى تبذلها الدولة للقضاء على المناطق العشوائية، من خلال رؤية استراتيجية تضع نصب عينيها فى المقام الأول الارتقاء بحياة المواطن المصرى الغلبان، وأعى تماماً حجم الجهد والتحديات التى يتحملها العاملون بالمشروع للانتهاء من إنشاء ذلك التجمع العمرانى الضخم، ولكن للأسف لم تضع الحكومة خطة موازية لتطوير الفكر العشوائى، وتنمية سلوكيات ووعى سكان تلك المناطق، والعمل على إزالة الفجوة العميقة بينهم وبين الدولة والمجتمع، تلك الفجوة التى صنعها الفقر والجهل، وعمقتها ثقافة التجاهل والعوّز والحاجة!! لذا أقترح أن يواكب هذا الجهد المعمارى العظيم تنظيم جولات ولقاءات لمجموعة من الشخصيات العامة والمفكرين وعلماء الاجتماع والسلوكيات والتنمية البشرية، يلتقون فيها مع سكان المناطق العشوائية، وذلك بهدف العمل على تنمية وعيهم، والارتقاء بسلوكياتهم ونظرتهم للحياة، والوصول إلى حالة من التصالح والوئام تمحو آثار سنوات طويلة من الجفاء والعداء والخصام، وتكتب صفحة جديدة ترسخ الولاء والانتماء، وتعمق مفهوم احترام الحياة الإنسانية.