عزيزتى نور حزمتُ أمتعتى، بعد أيام من البحث عن السعادة. لم أكن سعيداً. كنت وحيداً. بحثت فى حوارى باريس وشوارعها عن أمل وحياة، كانت تنقصنى. لم أقرب الحانات، والحقيقة أننى فكرت فيها طويلاً، ولم أسع لبغايا باريس، وهن الجميلات. هن خالات نخل السماء. سعيت نحو بيتى. نحو عائلتى. نحو مكان افتقدته لسنوات طويلة، فقدت فيها ذلك الذى كنته قبل 10 سنوات، بعد أن حملت على كتفى حقيبتى المتهالكة، متجهاً لباريس لأول مرة. كنت مثل غيرى، حلمت بالمال ولم أحلم بالموت. حلمت بالزواج، كعائد يحمل بقايا إنسان قديم، وكومة من المال. لا أحد يبيع نفسه، ولا حاكم يبيع نفوس قبيلته، إلاّ الحكام العرب. أطفأت النور وفكرت فى النوم لساعات قبل الرحلة المشؤومة. أغمضت عينى، ولم أنم. رأيت طيف أمى. رحلت قبل 6 سنوات. عجزت عن توديعها. لم أستطع النزول، من باريس لدفنها. لم أكن حصلت على الإقامة بعد. الفرنسية: هى الجنسية التى أفقدتنى إنسانيتى. أفقدتنى أمى، ولم أستطع أن أودعها. السعادة مكتسبة والألم دفين. استيقظت من كابوسى، عاودت النظر مجدداً فى صورة طفلتى، التى أنسى اسمها، بعد كل مكالمة تليفونية. نزلت سريعاً على السلالم، للجلوس على مقهى جانبى، جلست عليه قبل عشر سنوات، أبحث عن عملٍ. التقيت مصريين وعرباً. رحل بعضهم وبقى آخرين، ولم أجد لنفسى أى ملجأ بينهم. الغربة تأكل الأخضر واليابس. فى الريف تشتد الروابط فى الأحزان والأفراح. فى قريتنا الصغيرة، كنت دائماً ما أسير وسط الطريق. الفلاح لم يعتد السير جانباً. يهوى البراح. تذكرت كلمات والدى، بعد 10 سنوات. قال لى الفلاح لا يبيع أرضه، يوماً ما سيعود إليها. يعود ليُدفن فيها. من لا يملك مدفناً لا يملك شيئاً. اقترب وقت الرحيل. اتجهت نحو المطار، وانتظرت دقائق. رأيت عيون من رافقونى، تتلهف العودة. رأيت طفلة، أعادت إلى ابتسامات طفلتى ونواغزها. رأيت المضيفات، يتبادلن أطراف الحديث. ورأيت رجلاً يحتضن زوجته المريضة. وشاباً يحتضن والدته. مشاهد العودة، كانت مرتبة ومهيأة. طائرة تحمل 66 جثماناً، لكل منهم حكاية. تحركت الطائرة. حاولت النوم، لم أعرف. طاردتنى كوابيس قديمة، كانت تأتينى، فى أيام الصبا. حلمت بأننى أهبط فى قاع سحيق. الكوابيس لا تحمل الخير، قالت أمى قبل أن أتركها تموت بعيدة عنى. هدأت من روعى، وطمأنت نفسى. غيمت أجواء من الصمت على الطائرة. صمت النهاية. الموتى لا يتحدثون. من قال ذلك. لا أعرف. مرت ساعات، أغمضت فيها عينى. تحسست حقيبتى، بعدما راودتنى ظنون النسيان. رأيت ألعاب طفلتى الصغيرة، وبعض الهدايا. سمعت صوت القائد ينادى علينا. كان يصرخ. وكانت المضيفات يحاولن تهدئتنا. ماذا تجدى المطالب، مع قلوب أصابها الهلع. دارت الطائرة، حول نفسها. حاولت تهدئة نفسى بابتسامة عائلتى. قررت أن أكتب كلمات على البحر يحملها لابنتى بدلاً من جثتى وألعابها. عزيزتى نور.. أحبك. سافرت قبل عشر سنوات، لأوفر لك حياة سعيدة. سافرت كى أعود يا نور، ولم أعد. حينما تقرئين هذه الرسالة، بعد سنوات، ستعرفين أننى كنت أحبك. ربما لم أحب أمك، كما أحببتك. حاولت أن أحبها، لكن لم تحن الأيام. تزوجتها ورحلت سريعاً، عائداً لعملى. حاولت أن أنهى حياتى هنا وأعود، لكنى فشلت. فشلت فى العودة، لمكان لا يحتضننى. حاولت أن أجمع لك أكبر قدر من الألعاب، لكنها غرقت معى. هذه الورقة، لن تصلك، وربما يجدونها مع أشلائى. الطائرة هوت بنا جميعاً يا نور، وأنا أرى ابتسامتك، وشعرك القصير ينسدل على عينيك. كان المشهد صعباً يا نور.. كان قاسياً وغير إنسانى. ولا أود أن أذكر تفاصيله لك، وعزائى الوحيد أنهم لن يجدوا الجثة. لا أود أن تذهبى لمدفنى، لكنى ظللت أبتسم لابتسامتك، لعينيكِ الخضراوين، ونواغزك. لكل شىء فيكِ. 19 مايو - أيَّار. 2016 هذه السطور متخيلة.