هى الحرب إذن! يرددها أحد الأصدقاء بلا وعيد بل لتأكيد أن المشهد مألوف والحدث كبير؛ يتأمل شوارع دمشق ونحن نتجول فيها عقب مشاهدتنا لفيلم المخرج عبداللطيف عبدالحميد (أنا وأنتِ وأمى وأبى) ويقول إنها تذكره بشوارع السويس وقت الحرب، ثم يغنى ونحن نردد معه «يا بيوت السويس» ونبدل فى الكلمات لتصير «يا بيوت الشام.. يا بيوت مدينتى»، نتجاوز الوجع بالأغنية كما قفز الفيلم عن الحزن إلى الحب وعن الاستسلام إلى المقاومة وفرد أشرعة الرفض لتفتيت البلد وناسه، فأقل ما يمكن أن يقال عن هذا الفيلم إنه جاء فى وقته لينبهنا إلى ما هو أعمق من المكشوف؛ إلى الجحيم المنتظر إذا استمر الاعتراك والتخاصم ولم يفتح أحد أفقاً للتحرر من غول الانفعال الذى ينهش جسد الوطن، كما يأخذنا الفيلم إلى جدلية «الحب والحرب»، تلك التى اختصرها هيراقليطس فى مقولته الشهيرة «الحرب ربة الأشياء»، العلاقة الملتبسة بين الحب والحرب، الشىء وضده، انفجارات القذائف وتشظى الروح، ربما يصبح القتلى فى الحرب منسيين؛ لكن العشاق فى السينما هم عشب الحكايات، و«الحب كالحرب، سهل أن تبدأها، صعب أن تنهيها، مستحيل أن تنساها» كما ورد على لسان بطل الفيلم لحبيبته. كان لا بد لعبداللطيف عبدالحميد أن ينتظر هذه السنوات بعد الأحداث ليدرك كل تفاصيل الأزمة السورية وأطرافها، ويضع فى فيلمه المتخيّل البصرى فى خدمة سيناريو، هو كاتبه أيضاً، مشغول بحساسية أسئلة تنغرس كشوكة فى القلب، فيما يلملم شظايا الانقسام الذى حدث حتى فى البيت الواحد حول الوضع السورى واللحظة العبثية الجارحة التى تنغلق على سراب يركض الجميع فى اتجاهه، سراب حرب تعصف بالروح قبل البشر والحجر وترقص رقصة الموت اللعينة على وترين مشدودين؛ ليس فى وسع السينما أن تغير ما حدث أو أن توقف البدايات وتبدل المصائر، لكنها على الأقل تستطيع أن تحكى عنه وتبث رسائلها كأنها تعيد تكوين المسافات فى عبورها الغامض على منعطف رمادى، وربما هذا يفسر الوهج الذى يشيع فى الفيلم بالرغم من مرارة الحدث الذى يعصف بعائلة تمثل المجتمع السورى على ثلاثة أجيال: الأب (سامر عمران) الأستاذ الجامعى المعارض والمتجهم طول الوقت دون أن يسمح لأحد بالتحاور معه، الأم (سوزان نجم الدين) الموالية تتشبث حتى اللحظة الأخيرة بحبها وتماسك أسرتها، الجدان (حسام تحسين بك) الدمشقى القديم والد الأب و(بشار إسماعيل) والد الأم من الساحل السورى، وكل منهما يمثل بيئته ويكوّن شكل سوريا القديمة الطيبة، و.. طرفة الابن (يامن الحجلى) يقف فى منتصف الدائرة؛ يحسم الأمر فيترك دراسته ويلتحق بالجيش السورى ويحاول أن يرمم الحكاية ويمحو الضغينة مع حبيبته (مرام على)، يسأل الابن أباه الذى يروى له مقتطفاً من كتاب طبائع الاستبداد للكواكبى: تقدر تقول الشيشان والسعوديين والأردنيين بيعملوا إيه عندنا؟، ويسخر الشاب من الصراع التكفيرى الدموى على السلطة ويعيد ما قاله القرضاوى: لو كان الرسول عايش لكان حط إيده فى إيد الناتو، والأب لا يتخلى عن جهامته: بتعتقد إنى قرفان منكم بالفعل؟، أنا بس مانى قدران صلّح هالشرخ اللى جوّاتى! فيما الزوجة فى مشهد آخر تقول له: مش انت اللى قلت: من شجرة واحدة ممكن تصنع مليون عود كبريت، ومن عود كبريت واحد ممكن تحرق وطن، ليش اخترت عود الكبريت؟.. الحوار مدوٍ وقاطع فى وجه الجميع: نخب وعاديون، كل من طاله الجرح وتسبب فيه، وإيقاع سريع يلائم توالى الأحداث ويسحبنا فى حالات متأرجحة بين الضحك والبكاء، بين خفة دم الأجداد والأغنيات الرومانسية ولحظات حب مسروقة على درجات السلم وبين ساندوتش الفلافل المسمومة ومقتل الحبيبين غدراً تحت صيحات التكبير، نهاية تختصر حال مجتمع كل فرد فيه له قصته مع الفجيعة.