شكاوى كثيرة يعانى منها المواطن على مستويات عدة، من خدمات دون المستوى إلى مطالب ومناشدات تظل جميعها فى انتظار الرد، لتستمر أزمة المواطن وتبقى شكواه قائمة، تختلف الشكاوى وتتنوع قضاياها وتتعدد طرق تقديمها، لكنها فى النهاية تلقى مصيراً واحداً بعد أن تحتجز داخل أدراج مكتظة بأطنان من الشكاوى المشابهة. أحلام مواطن تتبدد على صخرة «الطناش الحكومى» الموجودة داخل العديد من المؤسسات والمصالح. طرق عديدة يلجأ إليها المواطنون لتقديم الشكاوى الخاصة بهم، تجسدت سابقاً فى صندوق خشبى صغير يضعون فيه أظرفاً تتضمن معاناتهم وآلامهم، إلى أن جاء عصر تطور التكنولوجيا وخدمات الإنترنت الذى شهد انطلاق عدة مواقع تختص باستقبال شكاوى المواطنين، بعضها تابع للوزارات المختلفة والبعض الآخر تابع للهيئات والمحافظات، اختلف الشكل وتطورت الآلية، لكن بقيت النتيجة كما هى تحت شعار «الشكوى للحكومة مذلة». من «صندوق الشكاوى» الخشبى إلى «خدمات الاستقبال» الإلكترونية: «طريقك مسدود» بوابة «الشكاوى الحكومية» التابعة لرئاسة مجلس الوزراء، أحد أشهر المواقع الرسمية التى تستقبل شكاوى المواطنين، تم بدء التشغيل التجريبى وتفعيل خدمة الشكاوى الخاصة بالمواطنين فى 23 مارس 2014 تحت شعار «المواطن أولاً»، بينما ظهرت مواقع أخرى غير تابعة لأى جهة حكومية تؤدى المهمة ذاتها، منها موقع «شكاوى المواطنين» الذى اهتم بكتابة توضيح أسفل صفحته الرئيسية يخلى فيه مسئوليته الكاملة عما ينشر، ومؤكداً أنه غير تابع لأى جهة حكومية، يشهد تفاعلاً كبيراً من قبل الجمهور حيث يهتم بعرض الشكاوى علناً مما يتيح للجميع إمكانية تصفح الشكوى وقراءتها، منها ما يتعلق بشكاوى الصحة والكهرباء والمياه والتعليم والاتصالات والتموين والبيئة، يجدد هذا الموقع نشاطه يومياً بنشر شكاوى جديدة يتلقاها من قبل المواطنين من مختلف المحافظات، بدا الأمر مختلفاً فى البوابات الإلكترونية التى أطلقتها محافظات الجمهورية، التى اشترك جميعها فى الخطوات التى يتبعها المواطن لتقديم شكواه: «من فضلك أدخل البيانات المطلوبة فى النموذج التالى، سيتم عرض شكواك على المسئول المختص وإبلاغك بما تم من إجراءات من خلال الموقع أو من خلال وسيلة الاتصال، للاستعلام عن الشكاوى السابقة يرجى الضغط هنا»، خطوات تظهر على الشاشة بمجرد الضغط على الروابط الخاصة بالبوابات الإلكترونية التابعة لأى محافظة من محافظات الجمهورية، يتبعها المواطن تدريجياً حتى يتم إرسال الشكوى ويبدأ فى متابعة الأمر عن طريق إدخال الرقم القومى الخاص به لمعرفة نتيجة الشكوى التى قدمها. «مصطفى» موظف قضى 12 عاماً فى رحلة الشكوى من أجل التثبيت بالشركة القابضة للكهرباء مصر: «خاطبت كل الجهات دون رد.. ولسه متبهدل» بعد الصندوق الخشبى، والمواقع الإلكترونية، جاء تفعيل خدمة «واتس آب» أيضاً عبر التليفونات الذكية كأحدث طرق تلقى الشكاوى بهدف التواصل السريع واستقبال البلاغات والشكاوى والاقتراحات من قبل المواطنين، مثل خدمة واتس آب محافظة القاهرة ومترو الأنفاق ومجلس النواب وعدد من الوزارات، هانى يونس، المتحدث باسم وزارة الإسكان، قال إن الوزارة لديها مكتب خاص بخدمة المواطنين يتلقى كافة الشكاوى، ثم يقوم بتوزيعها على القطاعات التابعة لها: «هناك شكاوى تصل إلينا خاصة بقطاع المياه والصرف الصحى، ويتم تحويلها على الفور، أما الرد على الشكوى يكون حسب الوسيلة المتاحة للمواطن، سواء على رقم تليفونه أو عنوانه»، أوضح «يونس» أن مهلة الرد تقرها الوزارة حسب نوع الشكوى أو الطلب، لكنها فى المتوسط تصل إلى 3 أيام: «لو حالة طارئة وتستحق الاهتمام الشديد بنبعت ليها رد موثق بمستندات، لكن لو حد عاوز شقة أو فى مشكلة عنده فى السكن بنوضح ليه إزاى يقدم وبنفهمه الإجراءات اللى هيعملها وأقرب حجز للشقق بيكون إمتى، ولو حد بيشتكى من صرف صحى بنوضح ليه أن المكان له خطة تطوير ضمن قرى أخرى، وبنعرفه إيه الخطة بالظبط وميعادها وهتتنفذ إزاى»، المتحدث باسم «الإسكان» أضاف أن الوزارة تتلقى الكثير من الشكاوى الكيدية والكاذبة، ما يؤدى إلى رفضها: «البعض يتصلون على الخطوط الساخنة علشان يهرجوا ويخترعوا شكاوى، ولما بنيجى نحقق فيها لا نجد لها وجود من الأساس». «نهلة» قدمت شكوى ضد «مضرب أرز» ملاصق لمنزلها يهدد صحة الجيران بالخطر: «كل مرة ييجى موظف يعمل معاينة.. ومفيش خطوة واحدة تمت» رغم الاهتمام الرسمى وغير الرسمى باستقبال شكاوى المواطنين، واستمرار الوسائل التقليدية مع تفعيل طرق أخرى حديثة، إلا أن معاناة المواطنين من أصحاب هذه الشكاوى ما زالت تكتظ بها رسائل الاستقبال الإلكترونى والصناديق اليدوية، دون أن تجد من ينظر فيها أو يلقى لها بالاً، تحتوى بداخلها على من يتوسل ومن يشتكى ومن يعبر عن آلامه وهمومه، ومن يناشد المسئولين على أمل الاستجابة، «سيد عبدالستار» واحد من هؤلاء المواطنين، كان يتصفح إحدى الجرائد الرسمية فوقعت عيناه على تلك الوظيفة التى ظل يحلم بها طوال عمره، أسرع بإحضار أوراقه وسرعان ما ذهب إلى وزارة الإسكان والتعمير للالتحاق بالوظيفة التى أعلنوا عنها، «الإعلان كان يوم 29 نوفمبر 2014، كانوا عاوزين حد من 15 مايو يشتغل سواق درجة أولى أو تانية، دخلت امتحان الإشارات وامتحان العملى والكمبيوتر ونجحت والشروط كلها كانت مطابقة عليا وماكنتش شغال فى أى مكان تانى»، فرحة شديدة غمرت قلب الشاب الثلاثينى جعلته يعتقد أن الاتصال به سيكون سريعاً، مرت الأيام والأسابيع والأشهر وما زال ينتظر الحلم الوظيفى الذى تجسد لديه فى مكالمة هاتفية من الوزارة تؤكد له الفوز بالوظيفة، حتى قرر اتخاذ خطوة جديدة بعد 3 سنوات من الانتظار، هنا قرر التقدم بشكوى عبر موقع رئاسة الوزراء: «بعد ما دُخت على كل الأوراق ودخلت الامتحانات ونجحت ماحدش عبرنى لحد انهارده، أنا عندى 3 أطفال وباصرف على أمى وأبويا ومليش مصدر رزق غير عربية أخويا الملاكى، كل شوية الشرطة توقفنى علشان مشغلها أجرة وكنت هاتضر كتير، ده غير إيجار الشقة 600 جنيه»، يؤكد «سيد» أنه تقدم إلى وظائف حكومية كثيرة ولم يفز بواحدة منها: «من بعد ما خلصت الجيش وأنا باقدم فى وظايف، وقدمت فى القرية الذكية، ومانجحتش فى حاجات كتير، لكن رغم كل ده عندى أمل أن الوظيفة بتاعة الإسكان تجيلى لأنى أستحقها ونجحت فى كل الاختبارات». لم تقتصر شكاوى المواطنين على رغبتهم فى الحصول على الوظائف فقط، بل تضمنت أيضاً مشاكل عديدة يصطدمون بها فى حياتهم اليومية، «علاء الدين مصطفى»، موظف بالشركة القابضة لكهرباء مصر، بادر بتقديم شكاوى وتظلمات إلى الجهات المختصة بعمله أملاً فى التثبيت، كان آخرها وزارة الكهرباء التى بعث إليها بفاكسات عديدة دون جدوى، 12 عاماً مضت وما زال يحارب، ليأتى الرد الذى لم يتلق سواه على مدار تلك الأعوام: «تم تلقى الشكوى»، يدب الأمل فى نفسه معتقداً أنه مؤشر واضح للاستجابة، لكنه يبقى عالقاً بين السماء والأرض لا يجد من يمد إليه يد العون. «أنا ماطلبتش المرتب يزيد، أنا عاوز أتثبت فى الشغل ودى أبسط حقوقى، أنا شغال بقالى 12 سنة ومتبهدل»، بتلك الكلمات التى ينبعث من ثناياها غضب وضيق بدأ «علاء الدين» فى سرد مأساته التى سئم من حلها، يعمل على «كمبروسر» يختص بالحفر وكابلات الكهرباء وأعمدة الإنارة بالشركة القابضة لكهرباء مصر التى تقع شرق القناة، فرع «القنايات» بمحافظة الشرقية، يؤكد الرجل الأربعينى أن هناك عمالاً كثيرين يعملون بالشركة منذ فترة قصيرة وتم تثبيتهم وهذا ما يعجز عن إيجاد تفسير له، رغم ضآلة راتبه اليومى الذى يبلغ 12 جنيهاً فقط، إلا أنه لم يطالب بزيادته وإنما عمل جاهداً من أجل الحصول على تثبيت فى العمل، لم ير مفراً سوى الذهاب لمديره فى العمل ليستنجد به لعله يهديه إلى الطريق الصواب، «اتكلمت مع المدير بتاعى، قالى إن الموضوع مش فى إيده، رحت الإسماعيلية لوزارة الكهرباء نفسها وبعت فاكسات، واحد كلمنى بعدها بأسبوعين قال لى الفترة دى محتاجين ناس تتثبت وأنت هتكون منهم أكيد، من ساعتها ماكلمنيش تانى ولا حاجة اتغيرت»، لدى الرجل الأربعينى 3 أولاد فى مراحل تعليمية مختلفة: «هبة فى كلية آداب سنة 4، وسعاد دبلوم زراعة ومصطفى فى 3 إعدادى، ومصاريفهم كتيرة ومش ملاحق عليهم»، معاناة ومخاطر يتحملها «علاء» أثناء ممارسة عمله، أسفرت فيما قبل عن احتراق أجزاء من ذراعه اليمنى وتعرضه لأذى شديد، «لو أنا مقصر فى شغلى ماكانوش جددوا العقد كل 6 شهور، لكن أنا شغال بضمير، مين دلوقتى بيقبض 12 جنيه فى اليوم، ده الزبال مش بياخدهم، أنا حقى ضايع بس عندى أمل أنى أتثبت وربنا يكرمنى»، وسائل مختلفة لجأ إليها «علاء الدين» لتقديم شكواه شملت مواقع خاصة بالشكاوى على الإنترنت لا يعرف مصدرها، وأخرى تابعة لوزارة الكهرباء ولإدارة الشركة التى يعمل بها دون استجابة: «كل ما أسأل يقولوا الشكوى موجودة هنشوفها ومافيش حد بيفهّمنى أعمل إيه ولا الشكوى دى هتروح لمين؟»، لم يكن لدى علاء خيار آخر سوى انتظار الفرج الذى لا يأتى، والإلحاح فى تقديم الشكوى حتى لو فقد الأمل. بدا الحال مشابهاً لدى سكان المناطق العشوائية الذين قضوا سنوات عديدة فى انتظار الحصول على الوحدات السكنية، على أمل أن يودعوا بيوتهم الآيلة للسقوط قبل أن تودعهم وتلقى بهم تحت الأنقاض، لم يتركوا باباً دون أن يطرقوه ولا طريقاً للشكوى دون أن يسلكوه، «فاطمة عبدالرازق» القاطنة فى حارة حسن سليم بالملك الصالح، واحدة من كثيرات تقدموا بأوراقهم للحصول على سكن، «قدمت على شقة تبع الوزارة، وكل ما أروح يقولوا لى لسه، لحد ما العمر جرى بيا ولقيت نفسى مستنية الشقة بقالى 10 سنين، كل ما أسال يقولوا لى تعالى كمان شهر لحد ما زهقت، فات ألف شهر ومافيش جديد»، حالة من الإحباط خيمت على المرأة الخمسينية جعلتها تستسلم إلى الحياة فى غرفة ضيقة تحتوى أسرتها المكونة من 8 أفراد بعد أن تحطم ما لديها من أحلام رسمتها على جدران شقة ليس لها وجود، «بادفع إيجار 50 جنيه وممكن تقع فوق دماغنا فى أى وقت لأنها من العشوائيات القديمة، رحت سألت فى الحى وفى المحافظة وفى الوزارة وماحدش فهّمنى حاجة، المفروض يقفوا جنبنا مش يستغلوا إننا ناس جاهلة، ويوعدونا بحاجات مش هتتنفذ». لم تقف الشكوى عند حدود قاطنى العشوائيات أو المناطق الفقيرة والمتوسطة فقط، بل توغلت لتصل إلى كل «حتة» فى مصر، نهلة إبراهيم التى شاء حظها العثر أن تسكن فى منزل ملاصق ل«مضرب أرز» فى شارع طريق دمياط الرئيسى بمنطقة الجمالية التابعة للدقهلية، يقوم صاحبه بإحضار أرز الشعير ويقوم بتحويله إلى أرز أبيض عبر ماكينات خاصة، تقدمت بعدة شكاوى إلى المجلس المحلى على أمل اتخاذ إجراءات قانونية تجاه هذا المضرب، إلا أنهم اكتفوا بإرسال موظف قام بعمل معاينة للمضرب للتأكد من صحة الشكوى، «لما لقيت المجلس مطنش عملت محضر فى مركز شرطة الجمالية يوم 25 يناير 2016، رقم المحضر 333، حوّلوا المحضر للنيابة ووكيل النيابة طلب معاينة من إدارة البيئة وبعدها صدر قرار بإزالة المضرب، لكن لحد الآن مافيش أى خطوة واحدة تمت»، مضت شهور وما زالت «نهلة» فى انتظار تنفيذ قرار الإزالة، إلا أن الأمر ازداد سوءاً عقب قيام صاحب المضرب بردم الطريق المؤدى إلى منزلها ليصبح مهيأ لاستقبال السيارات التى تقوم بإحضار شكائر الأرز، «الطين زاد بلة، بعتّ فاكسات كتيرة، وكل فاكس يوصل بيبعتوا بعدها موظف يعمل معاينة ويمشى والحال مستمر على كده، وريحة المضرب وحشة جداً والرز بيعمل غبار للسكان هيموتنا». الشكاوى تنتشر فى كل حى ومدينة ومحافظة، من القاهرة إلى الإسكندرية وحتى جنوب مصر، قرية «العتمور» التابعة لمركز «كوم أمبو» بأسوان، واحدة من قرى كثيرة شهدت كوارث كبرى أسفرت عن إنهاء حياة أبرياء صاروا ضحايا الشكاوى المهملة التى تقدم بها أهالى القرية مراراً وتكراراً دون تحرك أى مسئول، مصرف مائى كبير يحتوى المياه الفائضة عن حاجة الأراضى الزراعية فضلاً عن القمامة والحشرات والثعابين التى تغمره هو محور «شكاوى الأهالى»، السيد عبدالرازق أحد القاطنين أمام المصرف، أكثر المتضررين، لكنه لا يعرف ماذا يفعل: «المصرف ده حاوى زبالة وريحة وحشة جابت لينا المرض، وفى طفلين غرقوا فيه، منهم ابن عديلى عنده سنتين كان جاى زيارة عندنا وبيلعب مع العيال وقع فى المصرف وطلعوه غرقان، وابنى برضه وقع فيه وكان هيموت منى ولحقناه بالعافية»، يعانى سكان تلك القرية من إهمال جسيم جعلهم يسأمون من طرق أبواب المسئولين على أمل ردم المصرف، لكنهم لم يجدوا من يمد إليهم يد العون، يؤكد محمد زكى، أحد السكان: «قدمنا شكاوى كتيرة للمجلس المحلى علشان يحطوا مواسير جوا المصرف ويردموا عليها، قالوا لنا حاضر وماحدش عمل حاجة، وفى عيل تانى غرق كان عنده 3 سنين»، المصرف تحول إلى «كابوس مروع» يراود الأهالى، من حوادث غرق إلى أمراض لا أول لها ولا آخر، أبوالحسن عربى، واحد من كثيرين أصابتهم حساسية الصدر وأمراض الرئة: «3 شهور دايخ عند الدكاترة بسبب الريحة، المصرف واخد نص القرية، وعلى جانبيه منازل كتيرة، اشتكيت فى المجلس المحلى ورئيس المجلس شافه من 5 سنين وقال هنركب مواسير ومافيش حاجة اتغيرت لحد انهارده»، نموذج من الشكاوى عانت منه القرية، يضاف إلى نماذج أخرى كثيرة تعانى منها قرى مصر وحضرها، وما زال الوضع قائماً على ما هو عليه، وما زال المواطن فى انتظار تحرك حكومى أو معجزة من السماء.