هل نؤمن بالعمل أم أن الكلام عن ضرورة العمل شعارات جوفاء؟ والأهم هل نمتلك تعليماً ومعرفة ووعياً ورغبة الخروج من قاع العالم غير المتحضر وغير النامى؟ هل تؤمن الدولة بالعلم والتنوير؟ وهل تمتلك إرادة ورؤية اختيار العلم منهجاً وأسلوب حياة أم أن التنوير والإبداع والجمال رفاهية نتجمل بها للحظات ثم نخلعها لأنه ترف لا نطيقه ولا نريده؟ هل الاستئناس بالقبح واعتياده ناتج تعليم ردىء فقط أم غياب كامل للاستنارة فتاهت معه مفاهيم الناس عن العلم والعمل والدين والجمال؟ فالمناخ العام هو من يشعل الطموح وهو من يطفئ الوهج، أسئلة كثيرة تطرح نفسها مع الأحداث والمواقف وتلح بعنفوان عندما يكون هناك حضور طاغ لقيم العمل والجمال فى كتاب أصدرته مكتبة الإسكندرية منذ سنوات بعنوان ديوان الخط العربى فى مصر، كل حرف فى هذا الكتاب يعرى حالة القبح التى أصبحنا عليها ويكشف روعة النور التى كنا فيها بعيداً عن الحالة السياسية وموقفنا من العصور والزعماء، فهذا الغنى هو ناتج لثقافة وهذه الثقافة كاشفة للمجتمع، وإبداع الخط العربى لا يمكن أن تصل أمة فيه إلى أعلى مستويات الروعة والإبداع إلا إذا كانت على درجة عالية وعريقة من الحضارة، فهو فن صفوة الصفوة، حين ينطق الحرف ويتشكل وينطق كيف كانت مصر سخية الثراء بالفن والجمال والعمل والبريق، وحين تصبح مصر من أفقر الفقراء فى إعلاء قيمة العمل والإحساس بالجمال فهذا يعنى طغياناً للقبح والتطرف والعشوائية، والبلد الذى يفرط فى حضارة بلغ فيها العلا وانفرد بها لا بد أن يغيب النور عنه ليحل محله ظلام الإرهاب والعنف والتطرف، التفريط فى مثل هذا الفن يعنى أن البلد ما عاد يدلل التنوير والثقافة أو حتى يذكره أو يريده، وبالتالى فهو يذهب كل يوم إلى الخلف، فن الخط العربى ما زالت له آثار تتحدث عن نفسها فى الشوارع والمحال والمساجد والمستشفيات العريقة مثل مبرة محمد على والمستشفى القبطى، الخط كان يصدر ثقافة تشع جمالاً ورقياً، فهناك مأثورات عظيمة شكلت جزءاً كبيراً من وجدان أجيال ما زالت تعيش بيننا. حكم ومأثورات عميقة رصدها هذا الكتاب «من صبر ظفر.. الحلم سيد الأخلاق.. لا سيف كالحق ولا عدل كالصدق.. رأس الحكمة مخافة الله»، فالخط إعلام يصدر ثقافة راقية تشيع فى المجتمع ويتشبع بها أو ثقافة أخرى تدمره وتشيعه إلى مقابر الظلام والإرهاب، فى هذا الكتاب لوحة تترجم واقع مصر عندما كانت تتحلى بالمعرفة وتزهو بالاستنارة ونترحم منها على رقى المعرفة التى أصبحت جهلاً وجهامة وقبح اللوحة مكتوبة بخط أحد أساطين الخط العربى وهى موجودة فى قصر الأمير محمد على باشا فى المنيل، وهو من أجمل التحف المعمارية فى مصر، والمدهش أن من قام بإبداعه فى كافة المجالات لم تكن شركة عالمية ضخمة ولا مهندسين أو خبراء أجانب إنما مجموعة من مشايخ الصنعة المصريين، كل فى مجاله وهكذا جاء بالنص فى لوحة التأسيس: البناء من عمل المعلم أحمد محمود البناء وأولاده الحجر من عمل المعلم محمد عفيفى النحاس النجارة والرسومات والنحاس من عمل المعلم محمد إبراهيم النجار الرخام من عمل المعلمين أحمد سكر ومحمود صالح السجاد من عمل المعلم محمد إبراهيم طلحة الكتابة من خط الحاج أحمد كامل أفندى وهذه اللوحة تؤكد قيمة وأهمية العمل، فنجد فى كلمة من عمل أمام كل إبداع، وهناك أيضاً فخر باللقب وهناك إبداع فى فن السجاد اليدوى، فوقت أن كانت مصر بها الأسطى والمعلم كانت هناك قيمة للفن والجمال والعمل، وعندما أصبحت مصر على جهل بشهادات جامعية أصبحت البطالة سيدة الموقف وأصبح التعالى على المهن أسلوب حياة، ويكتمل التحضر والرقى فى التحفة المعمارية قصر الأمير محمد على باللوحة المنسوبة لصاحب القصر والموجودة على إحدى واجهاته ويقول نصها: أنشأ هذا القصر الأمير محمد على باشا نجل المغفور له الخديوى محمد توفيق إحياء للعلوم والفنون الإسلامية واجلالاً لها. فالفن بكافة أشكاله له إجلال خاص وكانوا يحتفون به كما يحتفون بالعمل وجودته وإتقانه، وهذه اللوحة نفحة من التحضر مكتملة الأركان، المناخ العام هو الذى يفرز الجمال أو القبح، وقد كان مناخ مصر ونسيجها يزهو بالجمال والعلم والعمل ولا يجهض الفن والحضارة والاستنارة ولأننا فى حالة إجهاض مستمر فالنتائج عشوائية متضخمة يجعلنا ندرك لو كان لدينا شىء من وعى وحس إلى أين نأخذ أنفسنا ونذهب؟ الأسطوات والصنايعية كانوا نتاج تعليم فنى حقيقى سواء كان تعليماً فى مدارس فنية أو تعليماً من خلال خبرات الأسطوات المبدعين، وفى فن الخط كان هناك خطاطون حاصلون على الدكتوراه، ومنهم من حصل على لقب البكوية، وهناك أصحاب شهادات أخرى امتهنوا هذا الفن واحترفوا الخط وأعلوا الإبداع والفن على الشهادة، وعندما تقوم وزارة الثقافة وبعض المحافظات الآن بترميم التماثيل أو نحت تماثيل جديدة يتحدث القبح عن نفسه وكأن ثقافة القبح فرضت سيادتها وسطوتها وسلطاتها فى كل شىء، بشر وحجر وسلوك وفكر وتعليم وإعلام وفن، وعندما نهدر التعليم الفنى ونتوسع فى التعليم الأزهرى فنحن نفقد بصيرة الإدراك وكما فقدنا مقاييس الجودة فى التعليم فقد فقدناها فى أغلب الأشياء وأصبحنا فى حالة خواء، فأينما كان التنوير كان الإبداع عملاً وفناً وحضارة ورقياً، فمتى تدرك الدولة أن الإرهاب والتطرف ناتج هزيمة التنوير والمعرفة والوعى وانتصار الجهل والقبح، ومتى تؤمن أن مشروعها الأول يجب أن يكون اختيار العلم ليعقد عليه العمل قرانه مع إشاعة الجمال والرقى.