فى عام 332 ق. م كانت ولادة جديدة للإسكندرية، تلك المدينة التى أنارت البحر المتوسط والدنيا، وشاركت فى وضع أسس الحضارة الإنسانية، حينها بزغت الإسكندرية من جديد كما طائر الرخ الأسطورى، الذى كلما ألمت به الخطوب وخنقته لتهلكه مادياً أو معنوياً ينهض الرخ من رماده متجدداً فتياً، فهو أبدى طالما الدنيا قائمة. تعود الإسكندرية ألقاً إبداعياً من بعد كوارث طبيعية تعتريها أو ظلامية بشرية تعتليها، تعود المدينة رخاً هائلاً مهولاً كما يجب عليها أن تكون. الإسكندرية بموقعها من عصور الفراعنة، مدينة وميناء بحرى زاخر، وعلى أى بحر؟ على البحر الأبيض المتوسط، صرَّة البحار ونبع الفكر والحراك المؤثرين على العالم كله. الإسكندرية التنويرية عدوها الأساسى هو ظلام التخلف، فهى منارة متلألئة، وعلى شاطئها كان فنارها المرصود أعجوبة من عجائب الدنيا، الإسكندرية فكر تنويرى، فهل نتوقع أن يتركها الظلاميون فى حالها؟ هل يتركها الجهل والتطرف وهى حاملة أنوار المعرفة والفلسفة والجمال؟ هل يتركونها تنير للبشرية البصر والبصيرة؟ لم يتركوها ولن يتركوها فى حاضرها ولا فى مستقبلها، أتاها الظلاميون من خارجها بجيوشهم مرات وبفكرهم المريض مرات، وأتوها من داخلها بتطرفهم وأمراضهم النفسية مرات ومرات، حاربوا المفكرين والفلاسفة الذين أضاءوا العقول وعالجوا النفوس، هدموا قصورها ومبانيها الجميلة، ليفرضوا العشوائيات والقبح المادى والمعنوى، أصروا على تحطيم مصابيح الفن والجمال، مصابيح الثقافة السكندرية. لكن الإسكندرية تناضل مجدداً وتستجمع قواها العميقة لتعود «إسكندرية ماريا وترابها زعفران»، إسكندرية الحلوة ناثرة العلوم والفنون والآداب. وهكذا تتوالى فى طول تاريخها حلقات الصراع الأبدى بين التنوير والتجهيل. فى التاريخ المعلوم أتاها من بث فيها ماء الحياة، أتاها من يعلم قدرها، القائد الفذ الإسكندر المقدونى، الذى أوكل لها النابغة المهندس دينوقراطيس ليخطط معالمها فتبدأ حقبة جديدة للطائر الأسطورى الذى لا يموت، طائر الرخ السكندرى. انطلقت الإسكندرية لتنير البحر العتيد بمنارتها المعجزة، وتنير العقل الإنسانى كله بمكتبتها الفكرية المذهلة. جمعت المدينة الميناء نخباً مختلفة الجنسيات ليبدعوا فيها فتزيد من ألقها. ثم تشيخ الإسكندرية بعوامل ليس لها ذنب فيها، ويستقوى الغوغاء الجهلة بفكر متطرف لم يفهم روح المسيحية السمحاء، فاغتالوا رمزها وقتها الفيلسوفة الجميلة «هيباتيا». انحدرت الإسكندرية وصارت رماداً، ثم من رمادها تعود للفتوة مع عصر البنَّاء محمد على باشا، تعود لمجد يتصاعد فتحوى فى داخلها ثقافات الإنسان عموماً وكأنها تقول: ها هى بضاعتنا ردَّت إلينا. فى عز مجدها الجديد حوت العديد من الأجناس المصرية الأفريقية والآسيوية والأوروبية، وجرت فى شوارعها على الأقل ثمانى لغات: العربية واليونانية والإنجليزية والفرنسية والإيطالية والروسية والنوبية والكردية وغيرها. أما اللهجات فلا يمكن حصرها لأن كل لغة أتت مع أقوام من مناطق عدَّة فى بلادهم. وشمخت فى سماء الإسكندرية أعمدة المعابد القديمة وأبراج الكنائس المسيحية ومآذن مساجد الإسلام، ولم تتخلف المعابد اليهودية فى الوجود الآمن والمشاركة الإنسانية، ولم ترفض المدينة السمحة أى عقيدة مهما كانت غريبة. وبدا عصر الانهيار السكندرى من عام 1956، حين تفشى التطرف باسم الوطنية، فحاصروا من قيل عنهم أجانب واضطروهم لمغادرة المدينة، غادروا بخبراتهم وعشقهم لمدينتهم الإسكندرية، لم يكونوا أجانب، بل كانوا طبقة موروثها أوروبى وتشرَّبت من منهل الإسكندرية فصارت سبيكة أوروبية/سكندرية (أوروسكندرية)، طبقة أسهمت فى رقى الثغر وإن ركَّزت على الأحياء الموازية والملاصقة لكورنيش البحر، حيث تقيم وحيث أحلى معالم الإسكندرية. وبالطبع مثلما القبح معدٍ فإن الجمال مُعدٍ، لذلك تأثرت الأحياء الشعبية بجمال الأحياء الراقية، كما تأثر أهل إسكندرية كلهم بالمستوى الجمالى المرتفع، فاشتهر السكندريون بالرقى الذوقى والفنى. ولد فى الإسكندرية الكثير من الفنانين العظام، أمثال: سيد درويش والنديم وبيرم وبديع خيرى والأخوين وانلى وغيرهم. كما ولدت فيها ذرية تجمع بين سلالات مختلطة فحملت فى خلاياها طاقات حلوة معطاءة، وربما كان أشهرهم الفنان السكندرى يوسف شاهين، فهو من أب لبنانى الأصل وأم يونانية، وعمر الشريف وهو ميشيل شلهوب السورى الأصل، خريج كلية فكتوريا بالإسكندرية التى كانت من أرقى دور التعليم فى العالم، وتخرج فيها الملك حسين والصادق المهدى حفيد الإمام المهدى الثائر على الاستعمار الإنجليزى، وعدنان خاشقجى وإدوارد سعيد، وغيرهم الكثير من الشخصيات المؤثرة. بعد الصعود، تنهار الإسكندرية وتنطفئ، تنهار المصانع والمحلات الراقية الفاخرة، ينهار كورنيش البحر الجميل، يصير ترام رمل إسكندرية الممتع مصدر ضوضاء وعذاب وقبح، قطار أبى قير يصير مسخرة مخزية، تهدم الفيلات الأنيقة الغنية بالجمال، لتعلو أبراج القبح الفاسدة، وتنهار على رؤوس السكندريين وتجلب السمعة السيئة لمن كانت عروس البحر المتوسط بحق. يعلو صوت الغوغاء والتطرف باسم الإسلام والإسلام منهم برىء، يعلو التطرف باسم الدين فيزيح التطرف باسم الوطن. إسكندرية ماريا سقطت لسنوات طالت وصارت تحت رحمة الظلام المختبئ عنوة تحت اسم السلفية! وتصدم مصر كلها حين يعلن متطرف سلفى سكندرى أن الحضارة الفرعونية حضارة عفنة! صحيح أن الإسكندرية هبت فى ثورتى 25/30 وأعلنت بإصرار رفضها للتخلف الظلامى، لكن ما زالت الحروب بين النور والظلام مستمرة. وأشير هنا إلى مقولة وزير الثقافة: «لدىَّ أكثر من 500 قصر ثقافة، كل منها يشبه عمود إنارة، لو أضاءت كل تلك الأعمدة لأنارت مصر كلها فكرياً وثقافياً»، سيادة الوزير والمفكر المعروف د. جابر عصفور: فى الإسكندرية «عواميد» الإنارة الثقافية مطفأة!