انتابتني قشعريرة وتملكني حزن بالغ وأنا في طريقي إلى بلدتي التي تقع في محافظة كفر الشيخ منذ أسبوع تقريبا.. ما هذا الذي حدث ويحدث في الأراضي الزراعية، لقد انتشرت الخرسانات والمباني العشوائية داخل الأراضي الزراعية بصورة سرطانية بشعة.. الأرض التي كانت تنبت البقول والأزر والقمح والقطن عبر آلاف السنين والتي تركها لنا أجدادنا وأباؤنا لنعيش من خيرها ونتركها من بعدنا إلى أولادنا وأحفادنا.. طعنها في مقتل حفنة من المصريين الاستغلاليين البشعين الذين استغلوا ضعف الدولة عقب ثورة يناير وانشغال الشرطة بمحاربة العناصر الإرهابية التي عاثت في مصر فساداً وقتلا وتدميراً وتخريباً فبوروا الأرض وأحرقوا الزرع وأقاموا لأنفسهم المساكن والمباني الأخرى على الأرض الطيبة لتتحول إلى كتل من الخرسانة والطوب في بشاعة يندي لها جبين الوطن والمواطن الحر الحريص على بلده وأمنه الغذائي الذي لا يقل في أهمية.. بل يزيد علي أمنه الوطني.. إن القبح الذي رأيته بعيني وأنا في طريقي إلى بلدتي.. خاصة عندما توغلت في المناطق الريفية أصابني بالحسرة والإحباط.. ومن العجب أن نرى مساحات من الأراضي وقد بورها أصحابها وجعلوها مخزنا عاريا للرمل والطوب والزلط وشكاير الأسمنت في بجاحة متناهية لمن يريد الشراء من راغبي البناء في الأرض الزراعية التي هي روح مصر مع النيل الذي يرويها عبر آلاف السنين الماضية.. إنها كارثة محققة سوف تلعننا عليها الأجيال القادمة الذين سيرثون أراضي مشوهة امتلأت بالمباني العشوائية التي لن تطعمهم من جوع ولن تغنيهم من فقر.. لقد مكثت ثلاثة أيام في بلدتي لم أنم في أي منها من جراء ما أرى وأشاهد وأسمع عما يحدث هنا وهناك من الناس خاصة الشباب.. وأحسست يقينا أن الفوضى التي ضربت مصر عقب ثورتها الشابة الحديثة كان للريف نصيب كبير منها، فقد تغيرت أخلاقيات الناس لدرجة أنني لم أكن أصدق أن ما أراه وأسمعه وأشاهده يحدث في بلدتي التي عشت فيها سنوات من عمري.. ماذا حدث للناس؟! الناس التي عاشت آلاف السنين على أرض الكنانة في الريف والمدن.. تتحول في أعوام ثلاثة إلى هذا السفه والذي يصل لحد الجنون.. وكأنما كانت الجماهير الغفيرة خاصة في الريف المصري في قمقم وانفتح لها الغطاء بعد طول حرمان وكبت فخرجت تعبر عن غضبها المكبوت وقهرها الطويل بهذا الأسلوب الأحمق والذي يصل لحد الهوس؟ ولا أقول الانحطاط.. إن مصر حزينة جداً من أفعال وتصرفات أبنائها، إنهم يخربونها عن عمد أو جهل بلا رادع من ضمير أو خوف .. وهم في ذلك مثلهم مثل المخربين والإرهابيين الذين يعملون جاهدين ليل نهار على خراب مصر وقهرها وإركاعها تنفيذا لمخططات أسيادهم من أعداء الوطن.. وما إن عدت حزينا آسفا على ما يحدث في الريف وأراضيه الزراعية الغالية، الا وقرأت تحقيقا مرعباً في جريدة الوفد عنوانه .. أعداء الجمال .. يدمرون تراث الإسكندرية .. والإسكندرية كما نعلم عروس البحر الأبيض المتوسط وملتقى الحضارات الإنسانية عبر تاريخها الطويل منذ أن بناها المعماري دينوقراطيس بعد أن أمره الإسكندر الأكبر بذلك .. ومنذ ذلك الحين أصبحت الاسكندرية حديث الدنيا والتاريخ .. ولقد توالت عليها حضارات عدة من الإغريق والرومان والعرب حتى صارت بحق مأوى رائعاً للثقافات واللغات المتعددة وبلغ ذروة ذلك في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين الماضي، حيث امتلأت الاسكندرية بالجنسيات الأجنبية والعربية وحدث تفاعل وتناغم بينهم وبين المصريين من سكانها فكان فيها اسكندرية الطلاينة وإسكندرية الشوام وإسكندرية الاجريج وإسكندرية المغاربة وإسكندرية الإنجليز إلخ الأجناس من الأمم والشعوب المختلفة ونتج عن ذلك مباني عظيمة وجميلة تميزت بها الاسكندرية من قصور وفلل وعقارات بطرز معمارية مختلفة كلها رائعة وتعد من التراث الإنساني الذي يجب المحافظة عليه وصيانته.. ولكن للأسف استغل بعض النفوس المريضة الوهن الأمني الذي أصاب مصر في أعقاب ثورة يناير لكن يقوم بهدم بعض هذه الأبنية التي لا مثيل لها الا في العالم المتحضر لكن يبيع أرضها بمبالغ مالية ولكي يقام على هذه الأراضي التي كانت تحمل التراث الانساني والثقافي أبراج من الطوب والأسمنت .. حتى أن ذلك أزعج العالم المتحضر الذي يهتم اهتماماً بالغا بالتراث الإنساني أينما كان موقعه وفي أي دولة كان .. فرأينا اجتماعاً لقناصل دول انجلترا وفرنسا واليونان بالاسكندرية ليصدروا بيانا مشتركا بشأن التراث المعماري الفريد بالاسكندرية والذي يغتال على يد المصريين السفهاء ممن لا يدركون قيمته التاريخية والإنسانية وإنما هو لديهم مجرد أرض تباع بالملايين من الجنيهات.. وجاء في البيان أن الكنوز المعمارية الواقعة على أرض الاسكندرية والتي بنيت في القرون الماضية تستحق أن تبقى وأن يتم حمايتها ليس كإشارة للماضي ولكن كتراث للمستقبل والأجيال القادمة. إلخ البيان الذي يأسف لقراءته كل مصري غيور على أرضه وبلده.. إن القيمة التاريخية والثقافية والمعمارية والأثرية لهذه المباني الرائعة الجمال والتي تزين عروس البحر الأحمر ثروة قومية لا تقدر بثمن.. وللأسف نحن نضع رؤوسنا بالرمال ونتغاضى عما يحدث منشغلين بهمومنا اليومية تاركين الحبل على الغارب لبعض المصريين غير المسئولين ليدمروا بلدنا.. سواء في أرضنا الزراعية العتيقة أو معمارنا الأثري الرائع في مدننا الكبيرة، والعالم من حولنا يصرخ فينا أن نوقف هذا الهراء حتى تنشر إحدى الصحف الفرنسية المهتمة بالتراث الإنساني مقالا صارخاً بعنوان «انقذوا فيلا أجيون بالاسكندرية» وهي إحدى الفلل التاريخية ذات المعمار الأثري الرائع بالمدينة الجميلة .. إنني أدعو وزارة المهندس محلب أن تتخذ كل الإجراءات الفورية الحازمة والسريعة لوقف نزيف الأراضي الزراعية في الريف المصري ووقف مهزلة هدم القصور والفلل ذات الطابع الأثري والمعماري والثقافي الفريد في الإسكندرية وفي غيرها من المدن المصرية.. والله معنا..