سيارات الإسعاف.. البطل الغائب.. شاركت في أحداث الثورة بداية من جمعة الغضب وحتى أحداث العباسية ووزارة الدفاع.. استنشق سائقوها دخان القنابل المسيلة للدموع.. وامتلأت أعينهم بدماء المصابين.. بعضهم حمل أقاربه في السيارة التي يعمل بها.. وبعضهم تلطخت ملابسهم بدماء أسرهم بالميدان.. والآن بعد عام ونصف على الثورة لا زالت رائحة ملابس الشهداء تثير أنوفهم ولا زالت مشاهد ذكرى يوم الغضب تعج برؤوسهم. تعددت الأقاويل التي تروي دورهم المؤثر في الثورة وما بعدها خصوصا أحداث "ماسبيرو" و"محمد محمود" ومجلس الوزراء والعباسية "وأيضا تعدد الاتهامات بأنهم كانوا وسيلة الشرطة في وصول الذخيرة لقوات الأمن المركزي بالميدان أثناء المواجهات.. التقى "الوادي" بسائقي سيارات الإسعاف التابعون لغرف عمليات القاهرة حيث يروون تفاصيل تروى لأول مرة عن أيام الدم. "س . م" يبلغ من العمر الخامسة والخمسين يعمل منذ 18 عام في مجال الإسعاف بينما كانت الأيام الثمانية عشر للثورة مرت عليه أكثر طولاً من تاريخه خلال عمله بتلك المهنة، رفض الإفصاح عن اسمه لعدم سماح اللوائح الداخلية بحديث العاملين بهذا المرفق إلى الإعلام يقول إن الثورة غيرت الكثير بالنسبة له وعلى رأس هذه التغيرات ارتفاع راتبه إلى اكثر من الضعف إضافة إلى انتهاء عصر الظلم الذي توج بحبس الرئيس المخلوع مبارك بالمؤبد وارتداءه "العفريته الزرقاء" حسب وصفه، فالمخلوع الذي مكث طيلة ثلاثون عاما عرفنا خلالها المعنى الحقيقي للفقر والمرض والذل، ولولا دماء الشهداء بالميدان لظل الوضع كما هو عليه "خاصة لما يدي البلد لولاده". يذكر عن أيام الغضب أنه كان يتلقى الأوامر بالتحرك من غرفة العمليات الرئيسية بالقاهرة حسب الإصابات التي يتم الإبلاغ عنها وبناء عليها يتم التوجه، حيث بدأت البلاغات بالاصابات تتدفق بصوره غير طبيعية من ليلة يوم جمعة الغضب وبدأنا في التحرك حيث كنا لا ننام من كثرة البلاغات التي تأتي إما بالرصاص المطاطي أو نتجية الضرب أو بالشوم أو الرصاص الحي حيث كانت معظم الحالات عقب ذلك تأتي نتيجة الإصابة بالاختناق من القنابل المسيلة للدموع التي كانت فاسدة فضلا عن تلقي شباب أصيب بطلقات نار حية، ولا تزال ذاكرته حتى الآن مملوءة بالقصص التي رسخت في ذهنه بأسماء مصابيها وقصصهم وطريقة إصابتهم فبالرغم من تكدس الحالات إلا أنه كان يحاول جمع المعلومات عن الحالات التي يتلقاها وكيفية إصابتها انطلاقا من مبدأ "العلم بالشئ" على حد وصفه. ويذكر ثلاث حالات متشابة جميعها أصيبت بطلقات حية في الأرجل حيث كانت تلك الحالات لشباب لا تتجاوز أعمارهم الثلاثين وقد أصيبو بطلقات نارية، منهم كرم محمود، الشاب ذو التاسعة والعشرين من عمره كانت الدماء تملأ ملابسه ويحمله أصدقائه بعد أن تلقينا البلاغ في الساعة السابعة مساء أن هناك أحد الإصابات بالميدان الذي انتشر به وقتها في بداية الأحداث أكثر من 10 عربات أمن مركزي وكانت تطلق الأعيرة النارية في كل اتجاه دون تمييز بالإضافة إلى القنابل المسيلة للدموع والرصاص المطاطي وخلال ذلك أصيب بطلقة اخترقت الساق اليسرى ونقل على أثرها إلى المجمع الطبي بالمعادي حيث يذكر ساعتها نظرات الموت التي كان يحدق بها أصدقاءه إليه خلال نقله إلى المستشفى تلك النظرات كانت ممزوجة بشئ من القوة خلقتها عزيمة الشباب لإزالة الطاغية مهما كلفه الأمر، الحالة الثانية كانت أيضا لشاب يقارب عمره عمر الأول وكأنهم تم اختيارهم أن يكونوا في عمر الشباب بل وكأنه تم اختيار أماكن للإصابات تحدث عاهات لشباب ذنبهم أنهم أرادو إزاحة الظلم عن الملايين لطغاة لم تعرف أسلحتهم صوتا لضمير، سمير درغام الذي أصيب برصاصة مشابهة في الفخذ الأيمن حيث تلقيت البلاغ عقب الحالة الأولي مباشرة لذلك الشاب وكأنه نفس السيناريو ألفه نفس الكاتب والمخرج، حيث دخلت إلى الميدان وبالتحديد خلف مسجد عمر مكرم حيث كان الجو ملبدا بدخان القنابل المسيلة للدموع والأصوات عالية تهز الميدان وفي خلال بضع ثوان نقله أصدقائه الذين في نفس عمره إلى السيارة المجهزة بالتنفس الصناعي وغيره من الاسعافات اللازمة لتطهير الجرح حيث تم نقله إلى المستشفى جازما أنه لن يحظى من الدنيا إلا بالقليل خلال ساعات كان يعتقد فيها أنه سوف يودع أصدقائه متمنيا أن تسفر تلك الرصاصة عن إزاحة الطاغية ومساعديه الذين تسببوا في إراقة دماء شباب في مقتبل أعمارهم، والحالة الثالثة لم تختلف عن الأولى والثانية لهذا لم أستطع أن أنسى تلك الحالات التي جاءت بصورة مباشرة واحدة تلو الأخرى بنفس الشكل بنفس الإصابة مع اختلاف بسيط من الفخذ الأيمن إلى الأيسر وكانها مدبرة ومخطط لها أن تتم بها الشكل. عم أحمد مرتضى - سائق سيارة إسعاف - كان أكثر شجاعة عندما صرح باسمه حيث نفى بشدة أن تكون سيارات الإسعاف التي يعمل بها وتتبع مرفق إسعاف القاهرة قد استخدمت في نقل ذخيرة وأسلحة إلى الميدان. قائلا: "إنه بالفعل تعرض في أحداث محمد محمود إلى إصابة نتيجة تلقيه حجرا في رأسة حيث قامت مجموعة من الأفراد بمهاجمة سيارته لمنعه من تقديم الخدمات الإسعافية للمصابين، كما تعرض للتهديد بحرق سيارته بالمولوتوف وإجباره على التراجع، ورغم كل هذا فإن سيارات الإسعاف منذ أحداث ثورة 25 يناير وحتى مجلس الوزراء لم تكن لها أي علاقة في نقل الذخائر لقتل أولادنا الذين كنا نحملهم مصابين بالتشنج والصرع. وأضاف "أنا لو عرفت إن زميلي شايل سلاح في سيارته أنا كنت منعته بالقوة من دخول الميدان حيث أشار إلى أن إسعافات الشرطة هي التي من الممكن أن تقوم بهذا العمل خاصة وأنها تمتلك أكثر من 4000 سيارة إسعاف كانت تحت أمر العادلي، حيث كان من الممكن أن يسخرها لخدمة قتل الثوار، ولم يكن مستبعدا أيضا أن يستخدم سيارات نقل الموتى في حمل القنابل المسيلة للدموع لقوات الأمن المركزي التي كانت عالقة بالميدان، وكان من بين المتظاهرين اولادنا وبناتنا، ولم نساهم يوما واحدا في نقل أسلحة حتى أننا كنا ننقل المصابين من الشرطة في الميدان. اما "ف. ع" فكانت روايته مختلفه بعض الشئ عن الآخرين فيقول تلقيت بلاغ بوجود مصابين عند نفق شارع الهرم عصر "جمعة الغضب" فذهبت مسرعاً لأجد مفاجأة وهي أن المصابين جميعاً من قوات الامن المركزي وكانت اصابتهم واحدة تقريباً وهي كسر في الساق وعرفت بعدها ان المتظاهرين نجحوا في كسر الحاجز الامني وقتها وقاموا بمهاجمة قوات الامن المركزي ودهسهم بعد طول عناء معهم ومع غازاتهم المسيّلة فأختبأت تلك القوات داخل مسجد "نصر الدين" وعندما ذهبت لاحاول انقاذ قوات الامن المركزي، وكان المتظاهرين يحاصرون المسجد فوقفت بحيث تكون مؤخرة سيارة الاسعاف مواجهة لباب المسجد وذلك لضمان سلامة المصابين "فهم مصريون أيضاً"، حسب قوله، فوجدت ان الذين اندفعوا ليدخلو سيارة الاسعاف كمصابين هم رجال مباحث واكتشفت انهم كانوا غير مصابين ولكنهم خشوا ان يفتك بهم المتظاهرون فقاموا بادعاء الإصابه فاخذتهم حتى ابتعدنا عن ايدي المتظاهرين فنزلوا وتحدثوا لي بلهجة منكسرة ان اذهب لأنقذ عساكر الامن المركزي المصابيين.. وقتها شعرت ان الثورة نجحت فلقد كانت تلك اللهجة المتخاذلة الضعيفة من ضباط المباحث غير مألوفه فعرفت ان "شوكتهم اتكسرت" واننا سوف نحتفل بنجاح الثورة قريباً. وحينها تحدث زميله "ك . م" وقال: لقد شاركت في جميع الأحداث التي وقعت منذ البداية وحتى احداث مجلس الوزراء وأحداث العباسية وانني كنت اعاني الأمرين في تلك الفترات بسبب صعوبة الوصول لأماكن المصابين ولحتمية دخولي وسط الغاز المسيّل للدموع والغازات السامة التي استحدثت في احداث محمد محمود وانه كان يستخدم "بخاخة " كمصابي الربو ليستطيع القيادة وسط تلك الاجواء المشتعلة، بالمعني، الحرفي فكنت لا ادري لمن انتبه لزجاجات المولوتف، ام للحجارة ام للرصاصات المطاطية ام للطريق حتى لا اتسبب في حادثة اخرى في ظل الزحام الرهيب في التحرير. واضاف ان جميع افراد عائلته كانوا من المقيمين في ميدان التحرير وذلك ما كان يدفعه للدخول لقلب الميدان بلا تردد لإنقاذ المتظاهرين لأن "اهلي معاهم" كما يقول. واضاف "ناجي صديقي" انه قام بنقل شقيقه الاصغر في سيارته في احداث "محمد محمود" وانه كان مصاب بطلقات خرطوش في الرقبة والوجه وانه عندما رآه فكر في اقتحام الشارع بسيارة الاسعاف، ولكنه رأى ان يعود ليحاول انقاذ أخيه، ويضيف لقد شعرت وقتها بأهمية الدور الذي ألعبه بل واعتبر نفسي مشارك في الثورة بإنقاذي لأبطالها، وان لكل منا دور في الأحداث ولا أرى فرق بيني وبين من يتصدى لرصاص الأمن فكلنا نواجه الموت.