بين جنون الاستحالة والإمكان، يولد عشق الفنان، مدفوناً في قبور النسيان، ليبعث للحياة بإبداع له كيان، محفوراً في حرفين من الكلام، فاء ونون في بحر من الأحلام، ليكون الفن لعشقه شاهد عيان، على موهبة أهداها له الرحمان، فبين ماّااسي الفرح وكوميديات الأسى، يبقى الإبداع الفني ولا ينتسى. فمهما اختلف الفن وتنوع الفنانون، تجد الإبداع مهربهم من واقعهم المسجون، ليجسد الفنان بفنه يوتوبيا الخيال، بواقع فني بديل سهل المنال. وليس هنالك ماهو أكثر قيوداً من سجن واقع ماقبل ثورة يناير، لينتفض ضدها الشباب من مختلف الانتماءات والأفكار، ليجتمعوا في ميدان واحد، دون اهتمام بعرق أو دين، فالهدف كان أيضاً واحداً هو الحرية والكرامة الإنسانية، فلا نجد أفضل من هذه الأجواء ليولد فيه جنين منتظر يحمل اسم "ميدان" في خانة الأب، مولود في عروقه فئة دم " العشق الإبداعي" ليكون اسمه المميز بكلمتي " الفن ميدان" . فكرة تجمع تحت مظلتها مختلف أنواع الفنون، على حد قول محمد حبيب، أحد مؤسسي الفن ميدان، مع اختلاف قدرات فنانيها من هواة ومحترفين، من رسم وأدب وغناء وتمثيل، من متغيرات الأفكار والثقافات، تعبر بشكل حقيقي عن فن الشارع المصري، بالإضافة لعمل الميدان على جمع كافة خيوط التواصل مع مراكز الثقافة والفن، وجميع فئات الفنانين والأدباء والمثقفين، ليحملوا معاً مرساة الفن الحالي، لتدور بهم سفينة ميدانهم لشاطيء فن جديد بدماء شبابية متجددة. ليبدأ الفن ميدان أولى فعالياته في إبريل من عام الثورة، متجسداً في ميدان عابدين، ليطل من بعدها شهرياً في السبت الأول من كل شهر، فاتحاً أبواب خيمته الفنية لاستقبال جموع الجماهير ليتناولوا وجبة شهرية فنية دسمة ذات بهارات ثقافية حارة، من حفلات موسيقية وغنائية، وعروض مسرحية وكوميدية، وورش تدريبية، وعروض البانتومايم والتنورة والاستعراضية، ومعارض للكاريكاتير والصور والفنون التشكيلية، مضافاً إليها مساحات شاسعة من الميدان لتسليط الضوء على المصنوعات اليدوية و الصناعات الصغيرة من الحلي والاكسسوارات والمنحوتات وغيرها، بجانب عروض لأفلام وثائقية وسينمائية وتسجيلية موثقة لأحداث مضت وتمضي بها الأيام، بالإضافة لإتاحة الفرصة لمختلف التيارات الفكرية والفنية للتعريف عن نفسها بشكل مبسط وهادف، وهذا كله في وجود تشابك فني يجمع بين خيوطه نسيج المجتمع المصري ككل. وإيماناً بحلم منظموا الفن ميدان بنشر الفكرة في جميع ميادين محافظات مصر، على حد قول بهاء الخطيب، أحد المؤسسين، لم تقتصر فعالياته فقط في ميدان عابدين، بل ساعدت المشاركات الشبابية على تجسيده في عدة محافظات أخرى، مثل الإسكندرية وطنطا وأسيوط والاسماعيلية وحتى الواحات، سعياً لتوسيع نطاق الفن ليشمل الأقاليم ومبدعيها، ليبعث رسالتها الموحدة لجموع فناني الشارع المصري الهواة والمحترفين بأن الفن فكرة، والفكرة لاتموت، بل تنتشر وتتجسد في عالم الواقع. ليعبروا بذلك خطوة نحو حلمهم الأكبر بوجود يوم عالمي شهري للفن والثقافة ينظم في الشوارع والساحات العامة، معبراً عنها وعن بيئتها وفنها وأفكارها البسيطة بحقيقتها والمعقدة ببساطتها. كما يعتمد المنظمون على التمويل الذاتي لهذا المشروع الضخم، وبعض المساهمات والتبرعات من محبي ومتابعي الفن ميدان، وسط نعوس أعين المسئولين عن الثقافة واهتمامهم فقط بالفن التجاري الجاني للربح المادي والشهرة، غيرعابئين بوجود شرارة للفن الحقيقي في نفوس شباب الفنانين الغير معروفين إعلامياً بالشكل الكبير، ليعتمد منظمو الفن ميدان على أنفسهم في تقديم هذه الوجبة الفنية الدسمة أول كل شهر، ليقدموا برسالة ميدانهم درساً قاسياً للباحثين عن الفن الهابط، بأن انحدار الواقع الفني الحالي قادرعلى الاعتدال بقدرات الأجيال الشبابية التي صنعت فكرة الثورة من شظايا ظلام لنظام انحل. حتى وإن عاد هذا الظلام بلباس ديني أو حزبي، فالفكرة تظل بمضمونها مضادة لرصاصات الظلم أياً كان مسدساتها الفكرية. فالفن ميدان ببساطة هو جنين فني بجينات ثورية معدلة، يحمل في عروقه الثقافية دماءً شبابية لاتنضب، مولود من رحم ثورة مجيدة كانت إمكانيتها في أبسط الاحتمالات مستحيلة، ليكبر شيئاً فشيئاً منيراً بلحظاته الإبداعية سنين من العتمة الفنية. مكملاً طريقه بنجاح مستمر ليجد عاشقي الإبداع في ميدانه مأوى ثقافي، يعيشون فيه بقوت فنهم بعيداً عن براثن الحياة الواقعية.