اليوم هو الخامس عشر من يناير، عام 1976، وفيه يكون قد مضى أسبوعان على اعتقال بشر، وفيه تبدأ إجازة نصف العام الدراسى. ذهب نادر إلى مقهى خفاجى، وقابل عيسى سلماوى فى الصباح، رآه على غير العادة يبدو سعيدا، ويدخن الشيشة، قال له إنه لا يقابل أحدا من الأصدقاء، فبدا عيسى راضيا ومبسوطا، وقال له مؤكدا بدوره ألا يحاول مقابلة يارا أو نوال أو كاريمان هذه الأيام.. كانت دهشة نادر من القبض على بشر وحده، وتركه هو وحسن وكاريمان، وهم القاسم الأكبر فى كتابة مجلات الحائط. قال عيسى سلماوى: - عرفت من الصحف أن الذين تم اعتقالهم من سائر البلاد، تفرقوا بين سجنى طرة والقناطر، العدد قليل هذه المرة، من الحزب الشيوعى المصرى وحزب العمال الشيوعى فقط. اندهش نادر ثم قال: - رأيت اسم بشر بين أعضاء حزب العمال الشيوعى، ولا أحد فينا فى أى حزب سرى. هز عيسى رأسه باستخفاف وقال: - هذه خيبة أمن الدولة فى مصر. يقبض على الأبرياء فيلتقون فى السجن مع أعضاء حقيقيين فى الأحزاب الشيوعية، فينضمون بعد الخروج من السجن اليهم، ولو كانوا كلهم أبرياء يخرجون لكى يؤسسوا حزبا سريا جديدا. بدا نادر قلقا جدا، فقال عيسى: - القانون يحتم أن يتم عرض المعتقلين على المحكمة خلال شهر، مضى أسبوعان الآن، لا تقلق، سيتم الإفراج عنهم، يقول رجال أمن الدولة أنهم عثروا معهم على منشورات، غالبا يدسها لهم جهاز أمن الدولة فى تحقيقات النيابة، حتى إذا سجلوا للأعضاء الحقيقيين من الأحزاب السرية أحاديث ولقاءات، فالمحامون يعترضون عليها بسهولة، لانها تتم دون إذن النيابة، وغالبا يجرى عليها مونتاج يحذف ما ليس سياسة منها، وهذا أيضا يتم اكتشافه بسهولة. ثم ضحك عيسى واستطرد: - غريب جدا أنور السادات هذا، يعطى المتهمين حقوقهم القانونية، ويترك جهاز أمن الدولة يلفق لهم القضايا، سيأتى يوم على هذا الوطن يندم حكامه على ما يفعلونه بالقوى اليسارية الآن. ران عليهما الصمت، ولا يزال القلق على وجه نادر، الذى كان فى الحقيقة مشتاقا للغاية ليارا، ويجاهد أن يمنع نفسه عن الاتصال بها، وقف تاركا عيسى، مقررا الذهاب إلى محطة الرمل ليأخذ جولة على باعة الكتب، فقال عيسى: - لا تنس ما قلته لك، لا تتصل بأحد وبالذات يارا، لا أحد يضمن هذا النظام التافه. أخذ نادر الأوتوبيس يفكر، لماذا خص عيسى يارا وحدها بالكلام هذه المرة، ومن سنترال محطة الرمل وجد نفسه يطلبها بالتليفون، لدهشته كانت هى التى ردت عليه، كان يتمنى أن يكون أبوها أو أمها ليغلق السماعة، ويقول لها فيما بعد أنه حاول أن يهاتفها مرة، لكن السعادة شملته، وحلقت روحه عاليا، حتى أنه لم يستطع الكلام إلا بعد لحظات تمالك فيها أنفاسه، فليقابل يارا وليكن ما يكون. يارا التى خلقها الله بنفسه، لن يصل إليها شياطين الإنس أبدا أبدا. ................ لم تطل جلسة عيسى بمقهى خفاجى، غادرها بعد أن تركه نادر بقليل، وقف يدفع الحساب فرأى المعرض الفنى لا يزال فى مكانه، كيف فاته حقا أن يطلب من نادر الطواف على لوحات فنانى الاسكندرية، كيف أيضا لم يفطن نادر إلى المعرض حولهما؟. أدرك عمق الهم الذى فى روح نادر، لكنه لم يغفر لنفسه، أنه أيضا لم ينتبه إلى أهمية أن يشاهد نادر المعرض، قرر أن يصعد إلى شقته القريبة ليتابع القراءة فى تاريخ عمارة الإسكندرية لتكون دروسا لمريديه كما قرر من قبل، إلا أنه أحس بالرغبة أن يرى فيلم«بارى ليندون» فى سينما رويال، لقد رأى أفيشه ليلة رأس السنة، وسأل نفسه لماذا حقا فاتته مشاهدته حتى الآن، فلتكن حفلة الساعة الثالثة، ليعود بعدها يتابع قراءاته، القديمة فى الحقيقة، التى يريد إحياءها. لكنه ضحك كثيرا فى المساء حين أدرك أنه لم يشاهد الفيلم اليوم أيضا، لقد وجد نفسه فى الشارع الخلفى للسينما، السينما التى لا يخطئ أحد الطريق إليها من شارع فؤاد، دخل الشارع الذى يسبق شارعها، ليجد نفسه يقف وينظر يساره إلى الباب الصغير شبه المفتوح، ويسمع ضحكا فى الداخل، رفع رأسه إلى اللافتة أعلى المحل فوجد مكانها خاليا، كما هو منذ زمن طويل، إنه يقف أمام بار«الجبان»، الذى أخذه إليه خريستو مرات منذ سنوات، ولم يأت ذكره فى أحاديثه مرة أخرى، لماذا حقا حدث ذلك؟ تذكر أنه سأل نفسه هذا السؤال من قبل، ولم يسأل خريستو، وأجاب نفسه لعل صاحبه قد غادرالاسكندرية، اليونانى الطويل ذو الوجه الأحمر المرفوع على رقبة عالية، والذى يضع على صدره«مريلة» بيضاء طويلة تكاد تصل إلى قدمه، هل يفعلها القدرهذه المرة أيضا ويجد خريستو هنا؟. ما أن عبر البار داخلا حتى هاله صغر المكان، كيف لم يدرك ذلك من قبل حقا؟ الجالسون ستة أشخاص، كانوا فى كل مرة ذهب فيها من قبل ستة أو سبعة، إذن المكان على حاله، لم ينكمش ولم يتسع، الجالسون فقراء كما هم، صاحب البار خلف النصبة الرخامية التى عليها كؤوس قليلة، وزجاجات قليلة من الويسكى والنبيذ والبراندى، لكن خلفه كما كان الحال، رفوف فوقها الزجاجات المغلقة تصل إلى السقف، الرجل لم يترك الإسكندرية وسيبقى فيها طويلا حتى تنفد كل هذه الزجاجات!! قال لنفسه ذلك وهو يبتسم. - أهلا. أهلا خبيبى. سمع صاحب البار، ماتياكس الذى يتذكر اسمه الآن، ورآه يبتسم. إذن هو يذكره. جلس إلى منضدة خالية، فخرج ماتياكس من خلف النصبة، يحمل زجاجة براندى صغيرة وكأسا، ووضعها أمامه، فتح الزجاجة بالفتاحة فى يده، وتركها لم يصبّ شيئا، كما هو لم يتغير، زبائنه هم الذين يفعلون ذلك، صبّ عيسى لنفسه كأسا، عاد متياكس إلى النصبة، وتناول من خلفها، من أرفف فى أسفلها لا يراها أحد، طبقا من السلاطة اليونانية، وطبقا من البساريا المقلية، وطبقا من البطاطس المهروسة بالبقدونس، وعاد ووضعها جميعا أمام عيسى الذى لم يطلب ذلك، هو على حاله لم يتغير ماتياكس. قال: - حاجه تانيه خبيبى؟. - شكرا خواجة. أجاب عيسى، وراح ينظر إلى وجوه الجالسين سعداء، وكما توقع دخل شاب صغير من الباب، ووقف لحظة حائرا، فهتف ماتياكس: - بره خبيبى مفيش خمرة خلاص. ازداد ارتباك الشاب، الذى بدا فقيرا أيضا، رغم بنطلونه الشارلستون، وشعره المنسدل، وسوالفه الطويلة، قال: - أنا عمرى اتنين وعشرين سنه خواجه. - فين البطاقة الشخصية؟ كان الجالسون الستة، المتفرقون على مقاعد قريبة، يضحكون، وكان عيسى يبتسم. أخرج الشاب من الجيب الخلفى للبنطلون محفظة، أخرج منها بطاقته الشخصية، وقدمها لماتياكس الذى نظر إليها وقال: - مواليد ستة وخمسين خبيبى يعنى عشرين سنه. مش ممكن.. «برّه». وقدم البطاقة للشاب، الذى أخذها فى غيظ، والتفت ليخرج، ما إن مدّ يده يفتح الباب، حتى هتف ماتياكس: - استنى. وخرج ماتياكس من خلف النصبة، ثم فتح الباب ينظر فى الشارع يمينا ويسارا، والجالسون يضحكون، يعرفون إنه سيسمح للشاب بالجلوس، رغم إنه لم يصل إلى الواحدة والعشرين، السن القانونى لتعاطى الخمور، هو فقط يبدو دائما جبانا، لذلك ذاعت شهرته بالجبان، وأصبح البار بار الجبان. - خلاص، أقف هنا، مش تقعد فى كرسى. وأشار إلى النصبة، فوقف الشاب، صب له ماتياكس كأس«روم»، والشاب ينظر إليه فى دهشة: - أنا عاوز بيرة.. - لا لا، بيرة كتير، روم، كأس واحد، يالا بسرعة اشرب، أنا مش ناقص. تناول الشاب الكأس فى ارتباك، وبدا يرشف على مهل، قال ماتياكس: - خلاص خبيبى اسكندرية مش فيه يونانين. مش فيه أجانب، مش فيه قنصلية تحمى زى زمان. ثم نظر إلى الجالسين وقال: - إيه واخد وعشرين سنه دى، مش فاهم! ظلم كبير! ضجوا جميعا بالضحك، وابتسم عيسى. قال أحد الجالسين: - المشكلة يا خواجة إن الرئيس المؤمن قال دولة إسلامية، رغم إنه يشرب خمرة والكل عارف. قال الجبان: - مش تكلم عن السادات من فضلك، كمان سادات مش يشرب خمرة. خشيش ممكن. ضحك الجميع، ضحك عيسى سلماوى بقوة، شكر الظروف التى وضعته أمام البار اليوم. كيف حقا انقطع عنه، وفيه روح الشعب الحقيقية! قال شخص آخر: - البلد كلها تدخن الحشيش، مصر طول عمرها تحب الحشيش، هو الاستعمار السبب فى الخمر. ضحك الجالسون أكثر، وانتبه عيسى للكلام العجيب، هل عرفت مصر الحشيش قبل الخمر حقا؟ لا طبعا، الخمر يعرفها المصريون منذ الفراعنة، ليس هنا المكان المناسب ليشرح لهم ذلك، فليتفرج ويسعد ويندهش، سيقضى وقتا مصريا حقيقيا. عاد الأول يقول : - سمعت أن الحكومة استوردت خمرة دون كحول، صنعتها المصانع الأوربية خصيصا للسعودية ودول الخليج، الحكومة المصرية أحبت ألا تكون أقل منهم. ضحكوا، كان الشاب قد انتهى من كأس الروم، طلب كأسا آخر، قال له متياكس: - خلاص خبيبى، كأس واخد بس، يالا، هات ربع جنيه. دفع الشاب الربع جنيه وخرج فى ضيق، إلا أنه عند الباب ابتسم وهز رأسه قبل أن يختفى، خرج الجبان خلفه، وطل من الباب ينظر يمينا ويسارا فى الشارع، ليعود يقول بينما هم يضحكون: - إيه خمرة من غير كحول دى. مش ممكن؟ قال الرجل الثانى: - مادام صنعوا خمرة دون كحول، إذن سيصنعون لحما دون كليسترول، ولبنا دون دهون وخبزا خاليا من النشويات. ظلوا ينظرون إليه مندهشين أكثر فقال: - وحتى يعصموا الناس من الفتنة، سيصنعون نسوان دون أعضاء جنسية. لم يعد أحد يسيطر على نفسه من الضحك، حتى عيسى سلماوى انفجر ضاحكا، بينما اتسعت دهشة وابتسامة «الجبان». ما إن خف الضحك حتى قال وهو يصفق: - خلاص، خلاص، حاقفل البار، راحة لغاية تسعة بالليل، يالا امشوا.. وصفق بيديه مرة أخرى، وبدا جادا بحق، تبادلوا النظرات، بدا إنهم لا يثورون على«الجبان» أبدا، راح يجمع الكاسات الفارغة والممتلئة، والزجاجات الفارغة والتى لم تفتح بعد، من أمام الجميع، الذين بدورهم أخرجوا من جيوبهم نقودا ليعطوه منها، لكن دخل من الباب رجل يرتدى بالطو أصفر ووتربروف، وفوقه كوفية سوداء، بدا من هيأته أنه مخبر ففى يده خيزرانه قصيرة، قال الجبان فجأة: - خلاص مش تمشوا، مافيش راخة ولا خاجة، تشرب إيه خبيبى؟ قال المخبر: - انت عارف. وضع الجبان بسرعة على نصبة البارالرخامية كأسا من النبيذ وقال له : - اقعد هنا قدامى خبيبى علشان فى سمك بربون خلو خالص، اشرب نبيذ يدفيك على خسابى كمان. راحوا يبتسمون ويضحكون بلا صوت، وجد عيسى فى هذه اللحظة نهاية لجلسته، التى لم يشأ أن«يزفرها» بوجود المخبر، ترك البار.. كان النهار قد بدأ يتسرب من الفضاء، والليل يتسلل قادما على مهل، ومشى عيسى إلى حيث كان يقصد من قبل، وقف أمام سينما رويال، التى لم يخرج منها جمهور حفلة الثالثة بعد، ولم يظهر جمهور حفلة السادسة والنصف بعد عند الباب، كم يحب هذه المنطقة، مسرح محمد على، ومتحف كفافيس، والبطريكية اليونانية وجرسها الضخم الرابض على الأرض بلا عمل، من حقا وضع هذا الجرس هنا ولماذا؟ سؤال لم يعرف إجابته أبدا، فى الخلف أيضا، مطعم «شى جابى»، ومحلات الجلود الثمينة فى كل مكان، وفى الشوارع الصغيرة المحيطة مقاه قليلة، روادها على وجوههم راحة ورضى، هنا تحتفظ هذه المنطقة، هذا المربع الصغير بين شارعى صفية زغلول والنبى دانيال، وشارعى فؤاد والسلطان حسين، بنسيم الخريف فى كل فصول السنة، رغم أن المطر يسقط فوقها كما يسقط على بقية المدينة فى الشتاء، والشمس تقف فوقها كما تقف فوق المدينة فى الصيف. نظر إلى واجهة السينما فلم يجد أى صور لرايان أونيل، لقد تم رفع الفيلم. أغمض عينيه لحظة، شعر بشئ من الأسف، لكن لم يشعر بالندم، لقد ضحك اليوم كما لم يضحك من زمان! أمامه الآن صور فلم «فتاة مرحة Funny lady» لباربارا سترايساند وعمر الشريف، ويالجمال الأفلام الأجنبية التى تعرض فى مصر هذه الأيام، هذا الفيلم يحتاج إلى يوم يفرغ له فيه وحده، يكفى إنه سيستمتع بباربارا سترايساند، ونجم الشرق الذى سطع فى الغرب، ليذهب الآن إلى أتينيوس، خاصة أنه لم يأكل مما قدمه إليه«الجبان» شيئا، ولم يشرب غير كأسين أثنين، ويطل فى أتينيوس على ما تبقى من الطبقة الوسطى، التى ستدهسها الطبقة الطفيلية لرجال المال الجدد، فى عصر الانفتاح الذى دشنه الزعيم المؤمن!.