كنت لا أزال قادرا علي رؤية وجهه الضاحك وسماع ضحكته المجلجلة، حتي وأنا أري الخشبة التي بها جثمانه، تعبر الرصيف إلي السيارة البيجو. وكانت ابنته تقف علي الرصيف مائلة بكتفها علي كشك السجائر، ثم عندما أدخلوا الجثمان السيارة ذهبت وأسندت رأسها علي الشباك الأمامي ناظرة إلي الداخل فرجحت إنها كانت تقرأ القرآن. أيضا كان هناك بعض من أقاربنا يقفون منتظرين نزول الجثمان. مال أحدهم نحوي وقال: - ما شفتش حد كان عنده أمل في الدنيا زيه. لحد الأسبوع اللي فات كان عمال يكلمني في المشروع اللي كان عايز يعمله. المرحوم كان قد بلغ من العمر الرابعة والثمانين وقد فقد معظم صحته بسبب الأمراض التي تكالبت عليه في سنوات الشيخوخة. "غرغرينا" في الساق اليمني أدت إلي بترها ببنج خفيف نظرا لضعف عضلة القلب. فقدان العين اليمني أيضا بسبب السكر وخلعها وتركيب عين زجاجية مكانها. كنت أحدث زوجته قريبتي- في هذا الموضوع وسألتها كيف تحمل كل ذلك. قالت إنه حتي- لم يصدر صوتا واحدا خلال هذه الأحداث المؤلمة. وكنت مصدقها. مازلت أذكر رجل المرور الذي جاء ليسجل مخالفة بسبب وقوف السيارات "صف ثان" وأخبره الناس بأنها "حالة وفاة" فتراجع علي الفور. قدنا سياراتنا إلي المسجد القريب ثم حمل بعضنا الجثمان ووضعوه في المكان المخصص للصلاة. كنا مبكرين فذهبت أتوضأ وعدت صليت ركعتين ثم جلست أنظر إلي الصندوق الخشبي الممدد أمامي. ثم انظر إلي شاشة التليفزيون الموجودة بداخل رأسي. أراه فيها وهو يضحك ضحكته المجلجلة ثم وهو يخرج من المصباح السحري. يختفي هذا المشهد هذا المشهد سريعا لأعود أراه في مشهدي المفضل. الممثل يجلس إلي البار ينتظر رجلا آخر وسيصارحه بحبه لزوجته وأنه يريدها لنفسه. الممثل خائف بالطبع خاصة وأن الرجل الآخر معروف بجبروته وبسطوته علي حياة الليل. الممثل يظل يشرب الويسكي بصفة مستمرة ليستحضر الشجاعة الكبيرة التي يحتاجها ليواجه الرجل الآخر. عندما يأتي أخيرا ومعه حارسه الرهيب ينزل الممثل من علي كرسي البار الذي كان جالسا عليه ويقف أمام الرجل ويخبره بالحقيقة. ويكون حينئذ مصيره المؤلم المتمثل في علقة كبري من الرجل وحارسه ألقت به فوق البار أحيانا وأوقعته علي الأرض أحيانا أخري، بينما يبكي البارمان بطريقة كوميدية. سبب تذكري لهذا المشهد بالذات هو أني حكيته له في بيته وهو جالس علي كرسيه المتحرك. كنت أحكيه له إعجابا بالكوميديا التي خلقها الممثل في جلوسه إلي البار وسؤاله الدائم للبارمان عن الرجل الآخر. كان متوترا فظل يعب من الويسكي ليستمد الشجاعة ثم يعاود السؤال عن الرجل بصوت عال ربما ليؤكد لنفسه من الداخل أنه شجاع، وكانت شخصية البارمان أنه مصري خواجه فكان يجيب علي أسئلة الممثل بطريقة كوميدية. عندما كان يسأله الممثل: - النمساوي هنا؟ كان يجيبه: - مسي يا خبيبي ..مسي يشرب الويسكي ثم يسأل ثانية: - راح فين؟ - معرفس يا خبيبي هو مش بيقول رايح فين، بس ممكن ييجي تاني - طب لما ييجي إبقي قوللي يشرب مزيدا من الويسكي ثم يرجع إلي الأسئلة - النمساوي جه؟ - لسه يا خبيبي يحتد قائلا: - يعني كان هنا! - أيوة يا خبيبي يعلو صوته أكثر: - أمال راح فين؟ - معرفس يا خبيبي، آه يا نافوخ بتاع الأنا كان تعليقه مبتسما علي روايتي للمشهد أن قال إن هذا المشهد وحده احتاج إلي يوم كامل لتصويره. فسر كلامه بأن المخرج كان دائم التوجيه للممثل بأن يظهر تألمه من الضرب المتواصل الذي قوبل به من الرجل وحارسه، لكن ملامح وجهه لم تكن تستجيب بالطريقة التي يريدها المخرج. في النهاية همس المخرج لهما: - اضربوه ..بجد أذن المؤذن للصلاه فقمنا صلينا ثم جاءت اللحظة الأصعب فصلينا عليه. وكنت أشك في أن أحدا غيري يمكن أن يكون باله مشغولا بما كنت مشغولا به من مشاهد سينمائية بالأبيض والأسود. سارت السيارات بعدها من عابدين إلي كوبري الأزهر فوقفت بعضها فوق الكوبري في انتظار السيارات الباقية التي لا يعرف أصحابها الطريق. في تلك اللحظات بدأت أري مشاهد أخري لكنها واقعية هذه المرة. رأيت يوم زفاف ابنته عندما أنزلوه بالكرسي المتحرك إلي السيارة التي أقلته إلي مكان الاحتفال بدار الإفتاء، وهناك، وقت التقاط الصور، كان يقف دون مساعدة أحد كي يكون طوله مساويا لأطوال من حوله. يدفع جسمه إلي أعلي بذراعيه القويتين وبالساق الوحيدة التي يملكها فيقف بينما كفاه تلمسان جانبي الكرسي استعدادا لمعاودة الجلوس بعد انتهاء اللقطة. كنت أطيل النظر إليه فأتذكره عندما كان يسرق الكاميرا في السينما من الممثلين الآخرين بجسده الضخم وملامحه المميزة. وبسبب ملاحظتي له فقدت التواجد في عدة صور تذكارية من صور العائلة، ولم أظهر إلا في صورة واحدة معه في هذا اليوم. كنا قد وصلنا جميعا إلي المقابر. كيف يسعد المرء عند مرآها؟ يظل المرء متحاملا علي قلبه طوال مدة بقائه هناك، إلي أن يغادر فيري الحياة من جديد. بينما كان الناس يحملونه من السيارة إلي المدفن كنت أراه واقفا بجانبي في صورة فوتوجرافية من حفل خطوبتي القديم، ثم تبدأ الصور في التسارع فأراه يسمعني وأنا أغني علي العود في منزلنا، ثم وهو يحكي لي -وأنا في منزله- عن القاهرة في العشرينيات والثلاثينيات، وسمات الأحياء الشعبية المختلفة في ذلك الحين. وإذ ذاك بدأت أخطر الصور في الظهور، هي ليست صورا من الأفلام، ولا من الذاكرة، بل هي صور أخرجتها بنفسي وقمت بتصويرها، مثل تلك الصورة التي حكتها لي زوجته عندما كان يعود أبي في أيامه الأخيرة وهو فاقد البصر تماما، ويجلسان وحدهما، فيبكي أبي في حضرته. كان سر دوام هذا المشهد في ذاكرتي أني لم أر أبي أبدا يبكي لشيء خاص به ألم به، حتي كدت أظن وقتها أنه لا يعرف أنه مريض. انتهينا من الدفن وصار بعض الناس يقرؤون القرآن، وأحدهم وقف يعظ الناس ويدعو للمتوفي، بينما شاهدت ابنته ثانية تقف بالضبط أمام مكان الدفن لا يسمع منها صوت، فرجحت ثانية إنها تقرأ له القرآن أو تدعو له في هدوء. وبينما كنا نخرج كان الانقباض ملازمي. لقد عاش الرجل تقريبا ضعف عمري، وحقق نجاحا كبيرا في مجالات متنوعة، ثم انتهي الأمر بهذا الملاكم العملاق بحظ أقل كثيرا من الكثيرين ممن لم يملكوا أصلا أيا من حظوظه ومكتسباته. خرجت بالسيارة وأنا أفكر إلي متي سيحتمل جسدي أعباء الحياة؟ وكيف ستكون صورة غدي؟ ورأيت الناس يسيرون في الشوارع وهم كثر، فقلت لا محالة فإنه مفرقهم الموت. ولاحت لي صور من مباهج الحياة التي أعرفها فلم أر لها أي معني. وكنت قد وصلت إلي ميدان الحسين عندما رأيت فجأة فتاة تسير علي الرصيف مرتدية بنطلونا أبيض. كنت أراها من الخلف، وكان جسدها متناسقا إلي درجة لا تصدق، يهتز بقدر محسوب مع خطواتها علي الرصيف الجميل، أما شعرها فقد كان متوسط الطول بني اللون. تمنيت وقتها أن يستمر زحام الشوارع فلا أسبقها بسيارتي. وظللت طول فترة رؤيتي لها شاعرا بسرور حقيقي. سرور عميق أخاذ، كالذي لم أتوقع منذ لحظة أن أعرفه ثانية في حياتي.