- يا الله. كيف تأخرت فى سماع شعرك كل هذا الوقت ؟ ابتسم نادر وقال: - اسمعى هذه القصيدة أيضا. «أيام الغد أمامنا مثل صف من الشموع الصغيرة الموقدة. شموع صغيرة ذهبية حارّة ومفعمة بالحياة. الأيام الماضية تبقى فى الخلف خطا حزينا من الشموع المطفأة. أقربها مازال الدخان ينبعث منها. شموع باردة ذائبة ومحنية لا أريد أن أراها. فمرآها يبعث الشجن فى نفسى. ويشقينى أن أذكر نورها الأول. فأنظر قدما إلى شموعى الموقدة. لا أريد أن ألتفت ورائى خشية أن أراها فيتملكنى الرعب».
وسكت نادر، وحط الصمت على المكان. الصالة الواسعة فى شقة نوال، والوقت يقترب من الفجر. حوله لوحات فنية كثيرة معلّقة على الجدران. لوحات غير أصلية لمونيه ومانيه ورينوار وفان جوخ وسلفادور دالى، ولوحات أصلية لسيف وأدهم وانلى ومحمود سعيد ومحمد ناجى وغيرهم من الفنانين المصريين، دار عليها من قبل حين دخل الشقة وعرف توقيعاتهم. ينقصه الكثير ليعرف شيئا عن الفن التشكيلى. كانت هى قد غيرت ثيابها فى حجرتها، بينما هو يقف يدور يتفقد اللوحات ويتطلع إلى الأثاث الفخيم، وعادت وجلست أمامه فوقها روب مشجر بالورود ذات الألوان الجميلة. بدت الآن متأثرة جدا من القصيدة. قال: - ما سمعتيه الآن ليس شعرى أنا. إنها قصائد لكفافيس. نظرت إليه مندهشة. ثم بدا أنها شردت قليلا قبل أن تقول : - سمعت يوما هذا الاسم. سألها: - هل تحبين الفن التشكيلى؟ - ستعرف كل شىء عنى الآن، لكن بعد أن أسمع شعرك أنت. لماذا لا تغير ملابسك؟ ملأ كأسه بالنبيذ الموضوع أمامه، ثم أغمض عينيه، وقرر أن يتلو شعره. اليوم سيعرف عنها ما كان يتشوق لمعرفته. إذن فليلبى رغبتها ليفتح لها الطريق. «ما الذى يحدث إذا تراجع البحر ستظهر مدن لا نعرفها بينها نساء ممشوقات القوام يرقصن على أنغام الجيتار ثم تعود المياه لتغمر كل شىء تختفى المدن والنساء وتبقى الدهشة معلّقة فى فضاء المدينة».
- انتظر. قالت ذلك ووقفت، ثم اتجهت إلى جهاز بيك أب بعيد فى ركن من الصالة، ووضعت فيه اسطوانة موسيقية لموتسارت، وعادت والموسيقى ترتفع خلفها. جلست أمامه مركزة عينيها عليه كطفل جميل. «المرأة التى زارتنى فى الحلم صحوت فوجدتها مكانى هتفت لى ما الذى يجعلك تزورنى كل ليلة. ولماذا إذا أصبح الصباح لا أجدك معى؟». شملهما الصمت من جديد. بدا مترددا. لكن هذه امرأة أخرى غير يارا، لم يحبها بعد وإن كان يرتاح إليها. وهى إن كانت تحبه، فربما يذكّرها بشىء ضاع. سيعرف كل شىء الليلة. فليتشجع ويضع الأمور فى مكانها، ليرى ماذا يمكن أن يحدث. أغمض عينيه لحظة ثم عاد يتلو شعره. «هى يارا وليست امرأة أخرى لا أراها إلا تجمع الفراشات هى يارا وليست امرأة أخرى تجمع خيوط الدانتيلا تصنع بها رداء يحملها ويطير بها إلى السماء». وقبل أن تتكلم نوال التى بدت راغبة فى ذلك استمر: «هى يارا وليست امرأة أخرى تسألنى ما الوطن.. ولماذا يبدو أبى غير متوافق مع المجتمع ولماذا يبحث هو وأمى عن الأشياء القديمة الأفلام القديمة. الأثاث القديم. الأغانى القديمة هل يمكن أن يقف الإنسان عند زمن لا يبارحه ؟ هل إذا طال العمر لم يعد لنا وطن؟ هل هو الذى يخوننا حقّا كما يقول أبى. وتصدق أمى على الكلام وهى تقدم له القهوة فى فنجان قديم تحتفظ به منذ عشرات السنين». سكت وأغمض عينيه يفكر كيف أسعفته الذاكرة بهذا الشِّعر، وهو لا يحفظ ما يكتبه بسهولة. نوال وموسيقى موتسارت هما السبب. نوال وحدها ودفء المكان ووداعة روحها. كانت رموشها ترف متتابعة لتحجب دمعة تترقرق وتتمايل للخروج. أراد أن ينتقل بها إلى ما يريد. قال: - وعدتينى أن تقولى كيف أحببتى الفن التشكيلى. - حكاية طويلة يا نادر. عرف أن زوجها كان أحد الشيوعيين الكبار فى الإسكندرية. كان اسمه نادر نعيم. واهتز حين سمع أن اسمه نادر، وأكملت أنها التقت به مع غيره من الشيوعيين لأنها أحبت طبيبا أخذها إليهم لتغنى. كانت ممرضة وتغنى طوال الوقت فى العمل، حتى أثناء العمليات الجراحية كان هناك طبيب يطلب منها أن تغنى أحيانا. قالت ذلك وهى تضحك. لم تعرف أن حبيبها أحمد شيوعى، إلا بعد أن ذهبت معه إلى نادر نعيم ومن معه أكثر من مرة. كان نادر رجلا وسيما فى نحو الخمسين. فى شقته بميدان سانت كاترين كانت كل هذه التحف، وكل هذا الأثاث. قبض عليهم جميعا ليلة رأس السنة نهاية عام 1958، بعد أن غنت بينهم وأبدعت. تم ترحيلهم إلى معتقل الواحات ليقضوا هناك سنوات الاعتقال. أما هى فقد قبض عليها، وحبست فى مبنى أمن الدولة فى شارع الفراعنة. أيام طويلة حبست هناك تحت الأرض. أخرجها أبوها بقصة غريبة. وصارت تضحك وهى تحكى وتدمع عيناها من الضحك البهيج. أرسل أبوها خطابا لجمال عبدالناصر يشكو فيه القبض على ابنته. كان هذا الخطاب سبب الإفراج عنها. لقد وعدها نادر نعيم من قبل أن يجد لها طريقا للغناء فى إذاعة الإسكندرية، لكنه لم يفلح، وبالطبع لم تفلح هى أن تجد الفرصة بعد ذلك، لا فى الإسكندرية ولا القاهرة. إنها فى الأصل من بيت فقير فى مساكن السكة الحديد، التى تقع على ترعة المحمودية بين كرموز وكفر عشرى. لأبيها «حمزة». حكايات عجيبة أخرى ،إذ تم خطفه من قبل الجنود الحلفاء أثناء الحرب العالمية الثانية. كانت طفلة ذلك الوقت. بعد ليلة رأس السنة التى لا تنسى، وما جرى لها، استمرت فى عملها فى التمريض فى رعب أكثر من خمس سنوات، حتى خرج المعتقلون الشيوعيون. لم يعد إليها أحمد. الذى بحث عنها كان نادر نعيم، الذى بدا قد هرم كثيرا. أخبرها أن أحمد غادر البلاد إلى فرنسا ولن يعود، وعرض عليها أن تتزوجه. إنه وحيد ولا يعرف لمن يعطى الشقة ولا أثاثها ولا تحفها. سيغادر مصر إلى الاتحاد السوفييتى، وليس أحق منها بما يملكه. كان عرضا غريبا، امتزج بالحزن لفراقها لأحمد إلى الأبد. عاشت عاما مع نادر نعيم. كتب لها كل شىء. باعت الشقة واشترت بها الملهى الليلى لتغنى. وقالت فى شىء من الحيرة، فقط لأغنى، فقط لأفعل ما حرمنى منه جهاز أمن الدولة، رغم أنى أغنى لسكارى ضائعين. هل عرفت الآن لماذا أحببتكم؟ ربما تعرف أكثر فيما بعد أيضا. بدت حزينة، وبدا مندهشا ومذهولا، لكنها وقفت بسرعة واتجهت إلى مكتبة بعيدة بها الكثير من الكتب التى فكر أنها لابد تخص زوجها الذى سافر. فتحت درجا وعادت بكراس قديم. نظر إليه مندهشا. قالت له: - هذا كراس قديم جدا كما ترى لشاعر اسمه عصمت مفتاح. بدا مرتبكا فقالت: - لا تعرفه. كان مع من قبض عليهم. سمعت شعره لأول مرة فى شقة نادر نعيم. قتل تحت التعذيب فى المعتقل. - كيف حصلت عليه؟ - كان يهرّب قصائده عن طريق أخت عيسى سلماوى، التى كانت تزورهم فى الواحات بعد أن سمحوا لهم بالزيارة. قال فى دهشة كبيرة : - عيسى سلماوى كان معهم ؟ - أجل. وأعرفه. سمحوا بزيارة الأهل فى العامين الأخيرين. عرفت ذلك فيما بعد. كان عصمت يكتب شعره على ورق البافرة، وعيسى يعطيه لأخته، وهى التى كتبت كل هذا الشعر. هذا خطها. لقد أعطى عيسى الكراس لزوجى نادر نعيم بعد خروجهما من المعتقل، ولقد تركه لى. أظن أنه قد آن أوان نشره. ما رأيك ؟ تناول منها الكراس دون كلام. فتحه وراح يقرأ دون صوت: « إن ديلاكروا الذى انتهى للتو من رسم الحرية وهى تقود الشعب قد خرج يجرى فى الحدائق فرأى المرأة التى انتهت لتوها من صنع الثورة بكى بين يديها أن تنتظر فالحرية الحقة لم يرسمها بعد من أنت أيتها المرأة اللغز قالت أنا التى أعتصر جويا حليبى وقام مجنونا ليرسم فريق الإعدام ويجرى فى الشوارع مع الثيران الثيران عرفت جويا وأوسعت له الطريق ووصل جويا إلى حافة النهر فرحان هيا نصلى جميعا وراء جويا هيا نصلى جميعا وراء جويا».
توقف نادر وبدا شديد الشرود. أغلق الكراس وتأملها لحظات ثم قال: -أنت سيدة جميلة جدا. أجهشت بالبكاء. ارتمت فى حضنه وقالت: -أرجوك لا تتعلق بى. أنا حكاية عابرة مثل كل من عرفت. يوما ما سأترك مصر. هذه حكاية أخرى سأحدثك عنها يوما. المهم أن ننشر هذا الشعر. راح يمسح دمعها بيده، ووجد نفسه يقبّلها على خديها. بدت له مستسلمة تماما، فوجد نفسه يقبّلها فى فمها، وهى راحت تضمه إلى صدرها بقوة كمن تريد أن تدخله فى قلبها. أراد أن يقف بها فقالت: - لا. خليك فى حضنى. لكنه لم يستطع. أوقفها وحملها ودخل بها إلى غرفتها. فوق السرير بدت متعطشة له منذ زمن طويل. وبينما هما عاريان انتهيا من كل شىء قال من جديد: - لماذا تأخرت فى دعوتى إلى هنا؟ ابتسمت وقالت: - أنت شيوعى رومانسى يا نادر. تماما كأصحابك. الليلة يتم القبض على الشيوعيين دائما عند الفجر. هذا تراث ثورة يوليو. انظر إلى الضوء الذى بدأ يتسلل إلى الدنيا. لابد قد انتهى البوليس منذ قليل من القبض على الشيوعيين. راح ينظر إليها غير مصدق فاستطردت : - أردت أن أفوّت عليهم الفرصة الليلة إذا كنت مستهدفا منهم، خصوصا أنى عرفت منكم أنه تم استدعاؤك فى أمن الدولة للاستجواب. شرد لحظات مندهشا وقال: - لكن يمكن أن يحدث ذلك غدا. قالت: - تكون قد فزت بيوم جميل. ومالت تضع رأسها على صدره، بينما قد تحقق ما قالته فعلا، وكان ممن حملتهم عربات الترحيلات الليلة إلى السجون بشر زهران بعد أن وصل إلى بيته قبل الفجر. بعد يومين من اعتقال بشر، قرر نادر وحسن وكاريمان ألا يلتقوا، لا فى الكلية ولا خارجها. أن يتغيبوا الأيام الباقية حتى بداية الإجازة. كانت يارا غائبة ذلك اليوم، فقرر نادر ألا يتصل بها، ومؤكد ستصل إلى حقيقة إنه يخاف عليها من الظهور معه الآن فى أى مكان. سافر حسن إلى المنصورة، وبقى نادر فى بيته فى المكس. كانت فكرة كل منهما؛ أنه إذا تم القبض عليهما، يتم من بيتيهما، فيعرف أهلهما من البداية. ترددت كاريمان أكثر من مرة على الكلية، لأنها لم تجد فرقا بين أن يتم القبض عليها من البيت، أو من الكلية، ففى الحالتين لن يبحث عنها أحد، وفى الحالتين سيطلّق زوج أمها أمها! تغيبت يارا عن الحضور إلى الكلية عدة أيام، بسبب آلام الدورة الشهرية. حين ذهبت كانت الأيام الأخيرة قبل الإجازة، والكلية شبه خالية من الطلاب والأساتذة. كانت قد عرفت نبأ القبض على بشر من الصحف، إذ رأت خبر القبض على شيوعيين وأسمائهم، لكنها لا تجد وسيلة للاتصال بنادر الذى ليس فى بيته تليفون. وحين اتصلت بكاريمان، رد زوج أمها وسألها عن اسمها وماذا تريد، فأغلقت السماعة فى قرف. تمنت لو زارتها كاريمان فى البيت، لكن كاريمان لم تفعل، فأدركت أن زوج أمها لم يخبرها بالمكالمة، وازداد قرفها منه. الأيام تمر على نادر، يقاوم فيها رغبة أن يتصل بيارا ليراها. وزيادة فى الحيطة لم يذهب إلى نوال فى الملهى، رغم حاجته الشديدة أن يراها، هى التى صحبته إلى بيتها لتمر ليلة الميلاد بسلام.