الإهمال.. الاستهتار.. الفهلوة.. قيم مصرية صميمة، يحاول المصريون على اختلاف شرائحهم الاجتماعية وانتماءاتهم السياسية والدينية، إلصاقها بالآخر أياً كان فالمسلمون يلصقونها بالمسيحيين والعكس، والليبراليون يلصقونها بالإخوان والعكس، وسكان الريف يلصقونها بسكان الحضر والعكس.. إلخ. هذا ما حدث ما كل حوادث التسمم التي أصابت طلّاب المدن الجامعية في مصر، ولا يهم أن كان عدد المصابين في الحوادث السابقة أقل أو أن الإصابة كانت أخف، مما وقع في حادثة مدينة الأزهر الجامعية، التي شهدت 540 حالة تسمم، ولا يهم أيضاً استمرار إلقاء التهم بين المصريين بعضهم البعض، فبين من فسّر الحادث على أنه مؤامرة إخوانية للإطاحة بشيخ الأزهر، ومن حاول تفسيره على أنه مؤامرة فلولية لإفشال مشروع النهضة الذي لا يعلم أحد معالمه أو يرى ملامحه، وجد الحادث حالة عبثية من الجدل العقيم الذي لا معنى له، ولا طائل منه، حالة استهواها المصريون هذه الأيام لا أدري ليدارون خيبتهم الكبيرة بعد ثورتهم العظيمة وسط مساجلات جدالهم أم لقلة حيلتهم ولجوئهم للبحث عن حل بين ركام التبريرات والاتهامات والسب والقذف والترهات.
استمراء الاتهام.. والانقسام
وكالعادة انعكست الحالة العقيمة المبهرة من استمراء الاتهام والانقسام على موقعي التواصل الاجتماعي "فيس بوك" و"تويتر"، إذ انقسم "النشطاء" - كما اعتادوا أن يلقبوا – في توزيع الاتهامات وتقديم الحجج والبراهين والتبريرات، فقال نادر حسنين "لو كان تسمم طلبة الأزهر هو الثمن للتخلص من شيخ الأزهر، يبقى بيحكمنا عصابة من القتلة لابد من التخلص منهم"، بينما قالت أسماء: "يعني طلاب الأزهر لحقوا يجتمعوا بالليل ويتفقوا على مطلب رحيل شيخ الأزهر ويعملوا كل اللافتات دي؟.. لعبة مكشوفة يا إخوان"، في حين كشفت منة المؤامرة الدنيئة وجابت م الآخر قائلةً: "الإخوان شايفين الحل الوحيد للرد على مشكلة تسمم الطلاب هو إقالة شيخ الأزهر..!! م الآخر الحوار ده معمول عشان كدة"، في الوقت الذي رد فيه هشام المهدي موضحاً الحقيقة كما هي ليس كما يراها قائلاً: "شيخ الأزهر هو المسئول عن تسمم الطلبة وليس الإخوان". الواقع الذي يحب المصريون الابتعاد عنه وعدم التفكير فيه، هو أن هذا الحادث وما سبقه وما سيتلوه في غالبها الأعم، لا ترتبط بشيخ الأزهر الحالي أو السابق، ولا ترتبط بإدارة الجامعة أياً كانت هذه الجامعة فمن الملاحظ مثلاً تكرار مثل هذه الحوادث مع تباين حجمها في أكثر من جامعة فقد وقعت منذ فترة ليست بالبعيدة أكثر من حادثة في جامعة القاهرة وجامعة عين شمس وجامعة الإسكندرية، إضافة إلى جامعة الأزهر.
رد فعل عنيف وسريع فور وقوع الحادث قام عدد من الطلاب بقطع طرق مدينة نصر أمام السيارات، اعتراضاً على تسمم زملائهم، "حالة عنف سريعة وتلقائية إزاء 540 حالة تسمم"، ما أدى إلى شلل مروري بجميع بمنطقة شمال شرق القاهرة، في حين تجمع عدد آخر منهم أمام قسم مدينة نصر ثان، ولا يغيب عن المشهد حشود الأمن المركزي والشرطة أمام المدينة وفي الشوارع. وعلى الفور طالب اتحاد طلاب طب الأزهر بإقالة رئيس الجامعة والتحقيق معه وإقالة طاقم المسئولين عن المدينة الجامعية، والتحقيق معهم، وإعلان نتائج التحقيقات فوراً، ثم ارتفعت الهتافات "رئيس الجامعة باطل"، "شيخ الأزهر باطل"، "أسامة العبد ارحل"، كل هذا يُعد عادياً جداً في إطار موضة الثورة الجديدة التي ليس لها أية معايير، فبإمكانك الآن الثورة على أي أحد في أي مكان، أو أي مؤسسة، وطالما أن القابع على هرم السلطة في هذه المؤسسة أو الهيئة أو حتى الدولة لم يُنفذ مطالبك "العادلة" فمن حقك أن تطالب بعزله فوراً... لا يمكن العيب على طلاب الأزهر لاعتراضهم على رئيس جامعتهم أو حتى شيخ الأزهر، فالحياة الكريمة حق أساسي من حقوقهم كبشر، والمسئولين في مواقعهم لكي يوفروا هذه الحياة الكريمة كإحدى مسئولياتهم.. لكن المسألة لا ترتبط بأحد ما في مكان ما.. إنها في الحقيقة ترتبط بوجود "المصريين" في "مصر"، فكل الكوارث تقع في كل مكان مهما كانت هوية المسئول.. الحل الأخير إما أن يترك المصريون هذه الأرض في حالها، أو أن يتغيروا.. وأخشى القول أن هذا مستحيل.
الحالة مذرية.. والطلاب: مطابخ المدن الجامعية في حاجة للنسف الفوري
الحالة مذرية إلى أبعد الحدود.. وبالفعل لا ترتبط إلا بالمصريين.. ففي جامعة الأزهر موضع الحدث وقبل وقوع الحادث بحوالي ثلاثة أيام، عبر عدد كبير من طلاب المدينة الجامعية عن استيائهم الشديد لما شهدوه من عبث في طريقة تحضير الطعام داخل المدينة خاصة أن هذه الأطعمة والوجبات غير صحية مطلقاً ولا تخضع لأي إشراف صحي قبل طهيها كما يحدث في أي مدينة جامعية في مصر، ولا تصلح للاستهلاك الآدمي، وكانت لجنة التعليم والبحث العلمي بمجلس الشورى قد استعرضت مؤخراً مشاكل المدن الجامعية بجامعة الأزهر، بالقاهرة وأسيوط، وكشف شكاوى الطالبات أمام اللجنة عن وجود مهازل حقيقية بالمدينة الجامعية بالقاهرة، حيث اشتكت الطالبات من انتشار العرس والكلاب داخل المدينة، وأن المسئولين عن الإدارة يعاملهن بطريقة غير إنسانية فضلاً عن عدم الاعتناء بنظافة السكن. وقالت إحدى الطالبات أن عدد المقيمات في الغرفة الواحدة حالياً يبلغ 15 طالبة بسبب أعمال الصيانة في أحد المباني، مشيرة إلى أن العديد من الطالبات تركن المدينة بسبب الأوضاع الغير إنسانية. فيما شهدت المدينة الجامعية بالإسكندرية 67 حالة تسمم، إثر تناولهم وجبة كشري، وقال طلاب جامعة الإسكندرية أن "مطابخ جميع المدن الجامعية تحتاج إلى نسف فوري"، وأن هذا المطلب سيكون الوحيد لجميع طلاب المدن الجامعية في الفترة القادمة. وأشار الطلاب إلى أنهم بصفة مستمرة يشعرون بالألم الشديد عقب تناولهم لوجبات المدينة وعند ذهابهم لطبيب المدينة يؤكد لهم أن إصابتهم ليست من جرّاء تناول تلك الوجبات. وأضاف الطلاب أنهم حينما ذهبوا إلى أطباء آخرين تبين بعد فترة أن تشخيص طبيب المدينة الجامعية، إضافة إلى أنه ليس طبيباً بشرياً ولكن أخصائي أشعة. واشتكى الطلاب من سوء النظافة في المطبخ، الأمر الذي يؤدي حتماً إلى تلوث الأطعمة، لافتين إلى أنهم تسمموا ولا يعرفوا مصدر التلوث. من جانبه أكد عمرو الشرقاوي عضو اتحاد الطلاب أن جميع المطابخ بالمدن الجامعية بحالة سيئة وغير آدمية، مؤكداً أنهم سيقومون بأخذ خطوات تصعيدية خلال الفترة القادمة لتغيير تلك الأوضاع. هذه الأوضاع البشعة وغيرها، ليست وليدة اليوم، وليست مرتبطة بشيخ الأزهر الحالي أو السابق أو رئيس الجامعة، وإنما مرتبطة في الحقيقة بثقافة وسلوكيات اعتادها المصريون ويجب عليهم الثورة على هذه الثقافة وهذه السلوكيات، وإلا فما الجديد مع الإطاحة بمسئول قديم، والإتيان بآخر جديد، يسبح كسلفه وخلفه قائلاً "دعه يعمل.. دعه يمر".