ما زالت قضية فساد القمح الكبرى تلقى بظلالها على الشارع المصرى , حيث كان وما زال من أهم المحاصيل التي زرعها المصريون لسد حاجاتهم من الغذاء، حتى تخطى إنتاجه حاجتهم وصدروا لدول العالم القديم أجمع، حتى اشتهرت مصر بكونها سلة غلال العالم القديم. فى هذا الصدد يقول الدكتور أحمد كامل أستاذ التاريخ الروماني بجامعة المنصورة، إن الرومان كانوا يفرضون ضريبة تسمى «الأنونا المدنية» عبارة عن كميات من القمح يتم شحنها إلى روما حسب احتياجاتهم، وكان يطلق على هذه الشحنة «الشحنة السعيدة» وقت الاحتلال الروماني، وفي عصر الاحتلال البيزنطي تحولت الشحنة إلى قسطنطينة، ويضيف أن الكمية المرسلة من الشحنة الغذائية كانت تصنع 80 ألف رغيف خبز يوميًّا، أي أكثر من مليون أردب قمح، وبعدها زادت الشحنة، وذات عام تأخرت 10 أيام؛ فحدثت ثورة جياع في أوروبا كلها. إلى أن وصلنا للوقت الراهن حيث اكتُشِفت أكبر قضية فساد في توريد منظومة القمح على يد لجنة تقصي حقائق شكلها البرلمان المصري في شهر يوليو (تموز) الماضي، حيث قُدرت قيمة ما تم اختلاسه من أموال دعم القمح المحلي بحوالي 70 مليون دولار في 10 شون (صوامع) فقط، من أصل 517 صومعة. وظلت مصر «سلة غذاء العالم» ومخزن للسلع في الشرق الأوسط وأوروبا، كما ظلت تحقق الاكتفاء الذاتي حتى عهد محمد علي، وقبيل ثورة يوليو 1952. بدأت مصر استيراد القمح في عام 1951 تقريبًا، فقط لتغطية احتياجات القوات البريطانية. بعد ثورة 1952 زاد استهلاك القمح، عندما بدأت الحكومة تعمم الخبز المصنوع من القمح بعد أن كانت الناس تعتمد على الذرة بشكلٍ أساسي في صنع الخبز، وبالتالي بدأت تزيد الكميات المستوردة من القمح، وتقل الصادرات. ووفقًا لبيانات وزارة الزراعة الأمريكية U.S. Department of Agriculture فإن استيراد مصر من القمح في عام 1960 بلغ 996 ألف طن، وارتفع في العام الذي يليه إلى 1.709 ملايين طن، أي بمعدل نمو في الاستيراد بلغ 71.5% تقريبًا. بينما كان الإنتاج من القمح في نفس العام 1960 حوالي 1.499 مليون طن، وانخفض في العام التالي إلى 1.436 مليون طن، أي بانخفاض بلغ 4.2%، وكان الاستهلاك المحلي في عام 1960 حوالي 2.490 مليون طن، وارتفع في العام التالي ليصل إلى 3.139 مليون طن، بزيادة بلغت 26%. وكانت المساحة المزروعة من القمح في عام 1960 حوالي 612 ألف هكتار، أي ما يوازي 1.5 مليون فدان، وانخفضت في العام التالي إلى 581 ألف هكتار، أي ما يوازي 1.4 مليون فدان بانخفاض بلغ 5%. وينبغي الإشارة هنا إلى تعداد السكان في مصر لارتباطه بالاستهلاك، حيث كان عدد السكان في عام 1950 حوالي 20.8 مليون نسمة، وفي 1960 كان 27 مليون نسمة، ليرتفع في عام 1980 إلى 43، وفي عام 2000 إلى 68، وفي عام 2010 إلى 82 مليون نسمة، ومن المتوقع أن يتخطى ال91 مليون نسمة في العام الحالي 2016، ويوضح الشكل التالي تطور اضطراد التعداد السكاني في مصر في الفترة ما بين 1950 إلى 2016. كما تجدر الإشارة إلى أن نصيب الفرد في مصر حاليًا من استهلاك القمح يعتبر الأعلى في جميع أنحاء العالم، حيث وصل إلى 180 كيلوجرامًا سنويًّا.وظلت مصر تستورد القمح خلال هذه الفترة، ولكنها لم تكن المستورد الأول للقمح إلا في أوائل الثمانينات. في عام 1982، تولى الدكتور يوسف والي وزارة الزراعة واستصلاح الأراضي، وظل في هذا المنصب 22 عامًا ليتركه في عام 2004، يرى الكثيرون أن يوسف والي هو مهندس عمليات تدمير الزراعة في مصر، وبخاصة المحاصيل الرئيسية كالقمح والقطن. وعندما تولى الوزارة وعد بتحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح خلال 3 سنوات، إلا أنه انتهج سياسات عملت على تقليص المساحات المزروعة من القمح؛ حيث أدخل محاصيل جديدة مثل الكانتلوب والفراولة بدلًا من زراعة القمح، وذلك بحجة أن أسعارهم أعلى من القمح، وبالتالي يمكننا توفير مبالغ أكبر وشراء القمح بكميات أكبر، وبهذه الطريقة نكون قد حققنا الاكتفاء الذاتي من القمح. كما سنّ العديد من التشريعات التي أضرت بالفلاح المصري، ووضعت العراقيل أمامه للتحول عن زراعة القمح، وزراعة محاصيل مثل اللب والفراولة. 1 صورة لكمية من القمح بعد عملية «درسه» تقول الكاتبة الصحفية سكينة فؤاد، والتي فتحت ملف القمح باعتباره قضية أمن قومي مصري على صفحات جريدة الأهرام المصرية؛ حتى تم إيقافها عن الكتابة فيها، تقول في لقاء على إحدى القنوات الفضائية إنها طالبت النائب العام آنذاك بالتدخل بسرعة، والتحقيق في إهدار المال العام فيما يخص مشروع «التكامل المصري السوادني لزراعة القمح» الذي أعده خبراء من البلدين، وتضمن خططًا ودراساتٍ خاصة بالاكتفاء الذاتي من القمح وتصديره، كانت بمقتضاه سوف تقدم السودان الأراضي الزراعية بالمجان لمصر لزراعة القمح كي يكفي الإنتاج احتياجات الدولتين، والتصدير لباقي الدول العربية والأفريقية، وأضافت أنه بمجرد إرسالها الأبحاث والدراسات إلى مقر الصندوق في القاهرة تمهيدًا لتنفيذ المشروع واقعيًّا، قامت قوات أمن مصرية بالهجوم على مقر الصندوق، وتم السطو على الأبحاث والدراسات الخاصة بالمشروع، ولا أحد يعلم مكانها إلى الآن، كنا ذلك في فترة الثمانينات في عهد يوسف والي. وتشير بيانات وزارة الزراعة الأمريكية أن مصر تخطَّت اليابان لتصبح أول مستورد للقمح على مستوى العالم في عام 1984، حيث وصلت وارداتها حوالي 6.3 مليون طن من القمح متخطية اليابان التي كانت المستورد الأول حينها بواردات بلغت 5.6 مليون طن. ومن المفارقات التي تدعو للدهشة في هذا الخصوص، أنه بحلول عام 2011 كما بالشكل أسفل فقد ارتفع الفارق بين واردات القمح لكل من مصر واليابان بمقدار الضعف تقريبًا؛ حيث بلغت الواردات اليابانية 5.8 مليون طن بزيادة قدرها 200 ألف طن فقط خلال هذه الفترة التي بلغت 39 عامًا، في حين ارتفعت الواردات المصرية إلى 11.6 مليون طن بزيادة بلغت 5.3 مليون طن خلال هذه الفترة. لدرجة أصبحت معها أسعار القمح في الأسواق العالمية تتأثر بكميات الاستيراد المصرية، فمثلًا ينخفض السعر العالمي أثناء زراعة القمح وتسويقه في مصر. وقد استطاعت دولٌ عربيةٌ أخرى تحقيق الاكتفاء الذاتي، مثل السعودية وسوريا قبل الأحداث الأخيرة، كما تقول سكينة فؤاد إنه بمجرد تهديد الولاياتالمتحدة لسوريا بقطع القمح عنها فقد قامت على الفور بإصدار قرار جمهوري بتحقيق الاكتفاء الذاتي من المحصول، واهتمت بالعلماء والباحثين، بل واستوردت خبرات مصرية، كما زرعت القمح بشتلات مصرية. لا شك أن القمح باعتباره محصولًا رئيسيًّا تعتمد عليه مصر بشكل أساسي في غذائها، يعد قضية أمن قومي، فلو تراجع الإنتاج العالمي من القمح في أي وقت بسبب سوء الأحوال المناخية والحروب، أو غيرها لربما أدى ذلك إلى مجاعة في مصر، أو في أفضل الاحتمالات تسبب في زيادة الأموال التي يتم شراء القمح بها، وبالتالي زيادة أعباء الموازنة العامة للدولة، وزيادة الضغط على الاحتياطي النقدي؛ لأن في هذه الأحوال ترتفع الأسعار العالمية بسبب قلة المعروض من القمح، بالإضافة إلى الضغوط السياسية المحتملة في هذه الأوقات. مثلما حدث في شهر أغسطس من عام 2010 حينما أوقفت روسيا المصدر الأول للقمح المستورد في مصر، صادراتها من الحبوب بسبب حرائق الغابات التي أتت على الكثير من محاصيلها، بالإضافة إلى موجة الجفاف التي ضربتها، وحينها شكل ذلك أزمةً للحكومة المصرية، وارتبكت حساباتها، واضطرت إلى البحث عن بدائل أخرى بأسعار أعلى لاستيفاء احتياجاتها كالقمح الفرنسي والأمريكي، واضطرت إلى دفع المزيد من المبالغ المخصصة لشراء القمح. كما حدث نفس الموقف في شهر ديسمبر (كانون الأول) من عام 2014، حيث أوقفت روسيا صادراتها من الحبوب بسبب الأزمة الاقتصادية التي كانت تعاني منها. ويقول الدكتور عبد العظيم الطنطاوي الخبير الدولي، ورئيس مركز البحوث الزراعية الأسبق في تصريحات نُشرت في جريدة الجمهورية المصرية إن جملة احتياجات مصر من القمح سنويًّا حوالي 15 مليون طن، بينما جملة الإنتاج حوالي من 7 – 8 مليون طن من مساحة تقترب من 3 ملايين فدان، وبذلك يترواح العجز الذي يغطى بالاستيراد من الخارج حوالي 9 ملايين طن، أي أن الفجوة القمحية التي تعاني منها البلاد تقدر بحوالي 50%، وهي تزداد سنويًّا بسبب الزيادة السكانية، وانحسار مساحة القمح، وانخفاض الإنتاجية، والتغيرات المناخية، وعدم ترشيد الاستهلاك، وزيادة نسبة الفاقد من 15% إلى 20% أثناء النقل والتداول والتخزين، وهي تقدر بحوالي مليوني طن، أما متوسط إنتاج الفدان على مستوى الجمهورية يبلغ 17 إردبًا، والمفروض أن يكون 24 إردبًا. وهو ما يعني زيادة الإنتاج بمقدار 2.5 مليون طن سنويًّا، وذلك يحدث باستنباط أصناف عالية الإنتاجية، ومقاومة للأمراض والتغيرات المناخية، وتلائم الزراعة في الأراضي القديمة والجديدة، وتتحمل الملوحة والجفاف والحرارة، واتباع نظم المكافحة المتكاملة للآفات، والتوسع في استخدام التقنيات الزراعية الحديثة والمتطورة. بسبب الفارق في الأسعار بين القمح المحلي الذي تدعمه الحكومة وتشتريه من الفلاح، وبين القمح المستورد رخيص الثمن؛ ظهرت «مافيا التجار» التي تعبث في قوت وأموال الشعب المصري من خلال الاستفادة من فرق السعرين عن طريق الاحتيال والتلاعب والغش؛ لتجني أرباحًا خيالية وغير مشروعة باستيراد القمح بالسعر العالمي الذي يبلغ حوالي 1500 جنيه مصري للطن، ويقومون بتمريره إلى الشون (الصوامع) الحكومية بطرق غير مشروعة بمبلغ 2800 جنيه تقريبًا، على أساس أنه قمح محلي. في العام الحالي 2016، قررت وزارة الزراعة المصرية اتخاذ العديد من التدابير، مثل حظر استيراد القمح طوال مدة الحصاد، واستلام القمح من الفلاحين المسجلة زراعاتهم في قاعدة بيانات الحصر الفعلي، واشتراط تقديم الحيازة الزراعية، والذي أُلغِي فيما بعد لأنه أثار حفيظة المزارعين الذين يعملون بأراضٍ مستأجرة. وذلك لمواجهة «مافيا التجار» ممن يحاولون الاستيلاء على مليارات الجنيهات من الدعم بتمرير شحنات ذات جودة منخفضة من القمح المستورد إلى شون (صوامع) التوريد باعتبارها محلية.وبسبب هذه التدابير حدثت حالة من الارتباك في إجراءات استلام القمح من المزارعين في موسم الحصاد في أبريل الماضي، وتطورت الخلافات (الحكومية- الحكومية) إلى حد توجيه وزارة الزراعة اتهامًا إلى وزارة التموين والتجارة الداخلية بالتلاعب في الدعم، بعد ضبط وزارة الزراعة شحنة من القمح المستورد رديء الجودة في طريقها إلى إحدى المطاحن الحكومية؛ مما دفع العديد من النواب في البرلمان المصري لاستجواب رئيس الوزراء شريف إسماعيل، ووزيري الزراعة والتموين.