نشر موقع «Vox» (ڤوكس) الأمريكي تقريرًا يتناول الأسباب الحقيقة وراء المخاوف المتصاعدة بعد تصويت بريطانيا لصالح الخروج من الاتحاد الاوربي، فقد يكون خروج بريطانيا هو أول حلقة في انفراط عقد النظام العالمي، فالاتحاد الأوروبي هو أحد أهم أعمدة النظام العالمي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. يقول الكاتب إن الأمر يستدعى القلق ببساطة لأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يضع النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية، وهو«أفضل نظام خلقته البشرية في تاريخ السياسة قاطبة» موضع شك. يقول «دان دريزنر» (الخبير في الاقتصاد العالمي بكلية فليتشر للقانون، جامعة تافتس) إن المخيف في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي هو أن الاقتصاديات العالمية تتبع قوانين المنظمات العالمية التي أسست عقب الحرب العالمية الثانية. فطوال 70 عاما، ساد الاعتقاد بأن الإقتصاد العالمي يتحرك في اتجاه واحد نحو المزيد من الانفتاح، إلا أن تلك القواعد ضرب بها عرض الحائط. فالنظام العالمي يعتمد بشكل حيوي على مجموعة من المؤسسات «فوق الوطنية» مثل الاتحاد الأوروبي. وتكمن فعالية تلك المؤسسات في حفاظ البلدان التابعة لها على قوميتها، وفي نفس الوقت خضوعها لإطار عام مشترك يحكم العالم كله. ويتجلى عظمة هذا النظام العالمي أنه جعل من الفترة التي عقبت الحرب الباردة «أغنى الفترات، وأقلها عنفًا في تاريخ البشرية». إلا أن هذا الوضع والتفاؤل صار مهددًا، الناخبين في بريطانيا حركتهم بدرجة كبيرة نزعة القومية المتحيزة ضد المهاجرين الأجانب، فجاءت نتيجة الاستفتاء هادمة لأحد أعمدة النظام العالمي «الإتحاد الأوروبي»، وحسب وصف الكاتب «للمرة الأولى أصابت القومية الغربية النظام العالمي في مقتل». يتعجب «دريزنر» أنه -أثناء الاستفتاء- لم ير أي خبير معروف يجزم بأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيكون مفيدًا من الناحية الاقتصادية، ومع ذلك قرر الناخب البريطاني أنه «لا يهتم»، فلم يكن سببه في ذلك اقتصادي، بل كانت حجته هي رفضه لقوانين الهجرة في الاتحاد الأوروبي، فضلا عن بعض التشريعات الاقتصادية الخاصة بالمهاجرين الأجانب وتأثير ذلك على السيادة البريطانية على أراضيها. ويظهر الكاتب مفارقة هنا أن نفس الأمران اللذان دفعا الناخب البريطاني للتصويت لصالح خروج بريطانيا المتمثلين في الهجرة وتشارك مجموعة من المؤسسات، هما نفسهما الذين ساعدا بريطانيا في الإندماج داخل إقتصاد الإتحاد الأوروبي وساعدته على الإزدهار. أما على مستوى الخبراء فقد اعتقد أغلب الخبراء أن فقد بريطانيا امتياز الدخول في الإتحاد الأوروبي وبالتبعية سوق الاستيراد قد ينعكس سلبًا على الناتج المحلى الإجمالي البريطاني. ويتعجب الكاتب مجددا قائلا «ومع ذلك، نظر الناخب البريطاني لكل ذلك، وقرر فليذهب كل ذلك للجحيم. فلتذهب المؤسسات فوق الوطنية للجحيم؛ نريد استعادة بلدنا»، الأهم أنه فقط يريد ابقاء المهاجرين خارج حدود بريطانيا. انعكاس قوانين الاتحاد الأوروبي للهجرة على بريطانيا يبدأ الكاتب في عرض السياق في بريطانيا الآن وكيف اختلف عن وقت انضمامها للإتحاد الأوروبي. فبين عام 1993 (تاريخ تأسيس الإتحاد الأوربي) وعام 2014 ، تضاعفت نسبة المواليد الأجانب في بريطانيا ثلاثة أضعاف، من 3.8 مليون مولود إلى 8.3 مليون مولود. وخلال تلك الفترة، ارتفعت نسبة البريطانيون الذين اعتقدوا أن قضية «علاقات الهجرة والأجناس» هي من أخطر القضايا في بريطانيا، من0% لتبلغ 54%. وفي الوقت الراهن يعتقد 77% من البريطانيون أنه يجب تقليل مستويات الهجرة. أظهر استطلاع أجرته «Ipsos MORI» (ثان أكبر منظمة بحثية في بريطانيا) قبل الاستفتاء، أن حوالي 52 % من الداعمين لخروج بريطانيا قالوا إن «الهجرة» كانت من أهم أسباب قرارهم، بينما كانت نسبة 14% المؤيدين لبقاء بريطانيا داخل الإتحاد الأوروبي اتفقوا معهم بشأن الهجرة وقالوا بالمثل. وقد أظهر أيضا أن نسبة 41% من المعسكر المؤيد لبقاءها داخل الاتحاد الأوروبي قالوا إن أسباب قرارهم كانت اقتصادية، بينما كانت النسبة 18% في معسكر الخروج من الإتحاد الأوروبي. يذكر الكاتب ان قانون الإتحاد الأوروبي يتطلب أن تفتح بريطانيا حدودها للمهاجرين من البلدان الأوروبية. وفي ذلك يعرض رأي أحد المؤيدين «إذا صوتنا بالخروج من الاتحاد الأوروبي، فسوف نستعيد سيطرتنا وسادتنا على أرضنا» يبدو أن الخطاب المعادي للهجرة استشرى بين البريطانيين الذين يعانون من ظروف إقتصادية وتعليم منخفضة. إذ أظهرت الاستطلاعات قبل الاستفتاء أن ذوي الدخول المنخفضة والمستويات التعليمية المنخفضة هم جوهر معسكر الخروج، على العكس من المؤيدين لبقاء بريطانيا ضمن الاتحاد الأوروبي ذوي المستويات الاقتصادية والتعليمية الأعلى. نايجل فراج (زعيم حزب الاستقلال البريطاني) يعرض «تورستون بيل» (مدير مركز Resolution Foundation للابحاث الإقتصادية) تحليلا لنتائج الاستفتاء، فيقول إنه بالنظر إلى مناطق تركز كل طرف من الناخبين المؤيد والمعارض، تضح علاقة المستوي الاقتصادي ومدى ثراء الناخبين في كل منطقة بقرارهم، وعليه أسس لوجود ارتباط شرطي بين منخفضي الدخل وبين تصويتهم للخروج من الإتحاد الأوروبي. ويضيف «تورستون» أن المناطق حيث مستوى الدخول منخفض لم تصبح هكذا بسبب الأزمة الإقتصادية، إنما هي أقرب إلى مناطق ورثت الفقر وعدم المساواة. فغياب العدالة الجغرافية مترسخ في تلك المناطق شكل ذلك الإختلاف في أنماط التصويت. فالناخبين في تلك المناطق لا يوجد ما يدفعهم للاعتقاد بأن بقاء بريطانيا داخل الإتحاد الأوروبي سيفيدهم بحال من الأحوال، بل لا يوجد لديهم أي سبب يقلل من خوفهم وغضبهم من وجود المهاجرين الأجانب. فضلا عن أنهم لا يرون سببا منطقيا في استفادة بريطانيا من الهجرة ككل، لا سيما مع عدم وجود سبب منطقي لوثوقهم في نخبة بريطانيا أو نخبة الإتحاد الأوروبي وتحذيراتهم عن عواقب الانفصال الإقتصادية، خاصة بعد أن شهدوا سوء إدارتهم للأزمة الإقتصادية في عام 2008. وفي المقابل، شهد هؤلاء الناخبين قليلي الحظ الكثير والكثير من المهاجرين الذين يدخلون بلدهم ويهددوا حياتهم ومعيشتهم. فالخوف من الأجانب متأصل داخل الثقافة الوطنية البريطانية. وقد أظهرت بيانات الاستطلاعات أن المعدلات العدائية العالية ضد المهاجرين والاجانب ببريطانيا تعود لعقود من الزمان، ولعل الذي دفع القضية للظهور بتلك الطريقة أعداد المهاجرين المتزايدة في الفترة الأخيرة. أعظم هزيمة للمؤسسة العالمية على مر العصور يعرض الكاتب رسما يوضح نسبة القتلى في المعارك منذ عام 1940وحتى بداية القرن الحالي، ومن المذهل أن نرى أن عدد الذين ماتوا في الصراعات انخفض بشدة وسريعا الآن عما كان الوضع عليه منذ 70 سنة. وفي تلك الفترة أيضا (1950-2000) يظهر نمطا واضحا إذ صار العالم أكثر ثراءً، وذلك بتتبع إجمالي الناتج المحلي لدول أوروبا وكن بينها بريطانيا. يؤكد الكاتب أن السبب الرئيسي في كل تلك الإنجازات هو النظام العالمي الذي نشأ عقب الحرب العالمية الثانية. فقد تزعمت الولاياتالمتحدةالأمريكية وأوروبا تأسيس عدد من التحالفات التي صممت كي تضمن عدم تكرار فظائع ومجازر الحرب العالمية الثانية أبدا. تعد الأممالمتحدة هي الأشهر من بين كل المنظمات، وكذلك حلف شمال الأطلسي «الناتو» ومنظمة التجارة العالمية، تليها اتفاقية «الجات» (الاتفاقية العامة للتعرفة الجمركية والتجارة) والتي أسست لتضمن تدفق التجارة المفتوح عن طريق تخفيف القيود التجارية. بالإضافة إلى عدد من أعمدة النظام العالمي الأخرى الأقل شهرة مثل «ECSC» (الجماعة الأوروبية للفحم والصلب) والتي نشأت فكرتها عام 1949 وأسست فعليا في 1952، وكانت أساسا لسوق مشتركة للفحم والصلب في القارة الأوروبية. قال أحد المخططين لفكرة السوق المشتركة للفحم والصلب إن الفكرة الرئيسية فيه تتلخص في أنه إذا كانت الموارد اللازمة لشن حرب جزءا من سوق مشتركة، فإن احتمال أن تشن تلك الدول حربا على بعضها البعض أمر «مستبعد، بل مستحيل»، إذ لا يمكنك شن حرب ضد طرف أنت بحاجة إلى التجارة معه للحصول على موارد تحاربه بها من الأساس. حققت الجماعة الأوروبية للفحم والصلب نجاحا ضخما واستمرت في التوسع. ومهدت السبيل للسوق الأوروبية المشتركة، وهو سوق على نطاق اوسع أسس في 1957. وبعد عقود من الاندماج والتوسع، عرف بالاتحاد الأوروبي في 1993. خروج بريطانيا أشد وطأة من الأزمة الإقتصادية يرى الكاتب إن الاتحاد الأوروبي -منذ تأسيسه- لطالما كان أحد أعمدة النظام العالمي القوية خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، أي على مدى 70 عام. وقد اعتمد الاتحاد الأوروبي منذ نشأته على نوع من المساومة، إذ تتخلى الدول الأعضاء عن جزء بسيط من سيادتها في مقابل جني مكاسب انضمامها لإقتصاد عالمي حر مفتوح، مما ينعكس على كل الأعضاء بالثراء والأمان. إلا أن الاتحاد يعتمد في نجاحه بالأساس على الدول العظمى، وبالطبع بريطانيا. يرى الكاتب أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أكبر صفعة تلقاها النظام الليبرالي، حتى الآن. فالأزمة الإقتصادية ربما كانت أكثر تدميرا للعالم كله، لكنها لم تكن «رفضاً صريحا للنظام العالمي بموجب تصويت الناخبين في أحد أكثر الديموقراطيات تقدما». فالناخبين ذوي الاجور المنخفضة لم يشهدوا مكاسب العولمة، ولذا لا يهتمون كثيرا بالإنعكاسات الإقتصادية لقرار الخروج من الإتحاد الأوروبي، طالما أن الخروج سيبقى المهاجرين خارج حدود بلادهم . انفراط العقد! زعيمة اليمين المتطرف في فرنسا «مارين لوبان» ولعل المخيف في الأمر أكثر من مجرد خروج بريطانيا، هو انفراط عقد النظام العالمي، فبريطانيا قد تكون مجرد البداية في سلسة استفتاءات في بلاد أخرى للخروج من الاتحاد الأوروبي. فالتيار اليميني المعادي للمهاجرين يدفع بشدة في اتجاه يحذو حذو بريطانيا، وذلك في فرنسا وهولاندا وألمانيا والسويد. وللاسف في تلك البلاد تتشابه الظروف حيث توجد أعداد من الناخبين ذوي الدخل والمستوي التعليمي المنخفض، والذين أيضا لا يرون أية مكاسب للنظام العالمي. علاوة على أن السياسيين في تلك البلاد يرددون نفس سيمفونية الخوف من المهاجرين والتي أشعلت شبيهتها في بريطانيا دعوات الخروج من الاتحاد في الأساس. يقول «نايجل فراج» (زعيم حزب الاستقلال البريطاني) أحد زعماء معسكر الخروج من الاتحاد الأوروبي «يحدوني الأمل أن يكون هذا الانتصار بداية سقوط هذا المشروع الفاشل، ويؤدي إلى قارة أوروبية تتمتع دولها بسيادة كالة على أراضيها».وأضاف في خطاب الإنتصار صباح الجمعة قائلا « نجاحنا ليس لنا فقط، إنما نجاح لأجل أوروبا كلها» إلا أنه من ناحية أخرى يرى الخبراء أن آمال «فراج» ليست ببعيدة المنال، فخروج بريطانيا سيشجع القوى المعارضة في بقية البلدان الأوروبية –على الأغلب العظمى منها- وستتصاعد الدعوات لإجراء استفتاء هي الأخرى. ويعلق «دريزنر» قائلا « وفي تلك الحالة، لن يعلم أحد ما الذي قد يحدث في اوروبا نتيجة لذلك». بالطبع يمكن رؤية مدى سوء الوضع الآن، ومدى السوء الذي سيؤول إليه. فعدم استقرار اوروبا سيعصف بالإقتصاد الأمريكي، فضلا عن رفض «ترامب» (المرشح الجمهوري للرئاسة الأمريكية) للمؤسسات الدولية وأعرافها مما يزعزع هو الآخر استقرار الاقتصاد العالمي. وقد يدفع ذلك الدول العظمى في أوروبا (مثل ألمانياوفرنسا) لإطلاق رصاصة الرحمة للإتحاد الأوروبي، مما يخلف المزيد من عدم الاستقرار الاقتصادي، ويولد المزيد من السخط، والذي بدوره يدفع الناخبين لمزيد من التطرف. حلقة مفرغة يرى الكاتب أن العالم يدور في حلقة مفرغة، فعلى سبيل المثال في بريطانيا الآن المعارضة التي أوجدتها المؤسسة العالمية ذات مرة تعارض النظام العالمي نفسه. وبالحفاظ على القوى العظمى متحدة سياسيا، وبالإبقاء على السوق العالمي مقتوحًا حرًا، هناك فرصة لأن تتمكن المؤسسات الدولية من تقليل محفزات الصراع. ومع غياب الصراعات بين الدول العظمى، قد تتمكن البلاد من زيادة حجم ثرائها ويزيد اندماجها داخل المؤسسات واتحادها مع الدول الأخرى والذي بدوره يقلل من خطر نشوب الصراع. وفي المقابل، الخروج من الاتحاد الأوروبي يزيد من احتمالية الإرتداد، أو بمعنى أخر أن تتسبب تلك الصدمة في تلاحق الصدمات وخروج دول أخرى من الاتحاد الأوروبي والنظام العالمي؛ فكل صدمة توجه للنظام العالمي تبطله، وتقود الناس إلى فقر أشد، فيزداد سخطهم ورهبتهم من المهاجرين الأجانب، وبالتبعية يزداد التوتر العالمي، وتنهار الأسواق وبالتالي ينحدر كل شئ للأسوأ.