الفتوي مسئولية عظيمة، لكون المفتي موقعاً عن الله في فتواه، ومن هنا وجب علي المفتي أن يتجرد تماماً من أي تعصب، وأن يقول الحق ويضع في حسبانه أن أحداً لن ينفعه عند الحساب، وهو للأسف ما لم يتوفر لدي د.عبدالرحمن البر المعروف ب (مفتي جماعة الإخوان) في رد فتوي د.علي جمعة عن (خروج الشعب المصري علي د.مرسي).. وأقول للشيخ إن ثمة أمرين اتفق أهل الأصول علي مراعاتهما قبل صدور أية فتوي وهما: 1- ما أسموه ب (تنقيح المناط)، وقد عنوا به: "بذل الجهد في تعيين العلة من بين الأوصاف التي أناط الشارع الحكم بها، عن طريق حذف ما لا دخل له في التأثير والاعتبار مما اقترن به من الأوصاف"، أو بتعبير آخر: إقصاء ما لا ينبني عليه الحكم حتي تبقي العلة المعتبرة في الحكم.. فيبين المجتهد أن العلة هي الوصف المشترك بين محل النص وغيره"[المستصفي 2/ 55 والأحكام للآمدي 3/ 300 ومراجع أخري]. 2 ما أسموه ب (تحقيق المناط)، وقد عنوا به: "التحقق من تطبيق النص علي الجزئيات، أي إثبات وجود العلة في الفرع، لكي نقوم بالقياس ونقل حكم الأصل إلي الفرع بإثبات وجود هذه العلة الجامعة التي يدور عليها الحكم" يعني باختصار: "تحقيق العلة في الفرع". ونحن لو تحاكمنا إلي هذين الضابطين، لوجدنا الشيخ في واد وضوابط أهل العلم السابق ذكرها لإسقاط الحكم علي الواقعة محل الفتوي، في واد آخر.. فهو يسرد إبان رده علي المفتي حديث الرسول: (من جاءكم وأنتم جميع وليس جماعة يريد أن يفرق جماعتكم فاقتلوه كائنا من كان)، يريد بذلك أن يتغافل وعن عمد كسائر أفراد جماعته عن هذه الجموع الحاشدة والتي قُدرت يومها وحسب مصادر عديدة محلية وأجنبية بما يزيد عن ال 33 مليوناً، تظاهرت في جميع مدن ومحافظات الجمهورية وخرجت تسترد شرعيتها التي اغتصبت وثورتها التي سلبت، وتحتج علي سياسات الإقصاء والاستحواذ والتبعية لمكتب الإرشاد التي انتهجها د.مرسي وجماعته.. وذلك مقابل بضعة ملايين علي أقصي تقدير أتي معظمها إلي إشارة رابعة وميدان النهضة كرد فعل.. مخالفاً بذلك واقع الأمر ومعبراً عنه بقوله: (وأنتم جميع وليس جماعة). وغريب من د.البر أن يعدّ انحياز الجيش للشعب الذي أراد أن يسترد كرامته: (تدليساً)، يريد بهذا الوصف: أن يفهمنا أن الذي قام ونظم هذه المظاهرات العارمة هو الفريق السيسي، وهو أمر مجاف تماماً لواقع الأمر ومن التدليس الذي يجب عليه هو أن يتنزه عنه، لأن انحياز القوات المسلحة ما جاء إلا وفقاً للمادة 194 من الدستور والتي تقضي بأن "مهمتها حماية البلاد والحفاظ علي أمنها وسلامة أراضيها"، وإلا لدَمر الشعب نفسه بنفسه ولقُسم الوطن علي أيديكم كما تعرف.. بل إنك لتلحظ تدليس دكتور الأزهر حين يقول: "والذي جاء شق العصا هو ذلك الانقلابي الذي جاء بفئة من الجيش فاعتدي علي هذه الإرادة الحرة، حتي لو كان البعض يؤيده".. وهو بالطبع كلام يعكس مدي ما يعيشه د.البر وجماعته من أوهام وخيالات، إذ العالم كله يعلم مدي انصراف من يسيء د.البر إليه الأدب عن تولي السلطة، ظهر ذلك جلياً حين وقف المتظاهرون أمام وزارة الدفاع مراراً يطالبونه بالتدخل وهو يصرفهم عنه بكل حيلة، كما ظهر حين أمهل الرئيس أسبوعاً بعد حركة تمرد وتوقيعاتها غير المزورة وبعد أن زادت المطالبات بإقالته، وظهر أيضاً حين أمهل الرئيس 48 ساعة والرئيس في كل ذلك يوليه ويولي الشعب ظهره، وظهر وهو يعرض عليه الحلول تلو الحلول وهو في كل مرة يرفض وبكل شدة، وظهر كذلك حين نصّب الفريق رئيساً غيره وحكومة تدير بمعرفتها شئون البلاد، وظهر حين زجر غير واحد ألح علي إجراء مباحثات معه وهو يقول له: (هناك رئيس للبلاد)، وظهر في اجتماعاته العديدة مع الحكومة وقد بدا كواحد من أفرادها.. فأين ما تقوله يا د.البر، وأين الحقيقة من قولك فيما الله محاسبك عنه: "فجاء ضابط انقلب علي رئيس انتخبناه.. هذا الضابط استغل وظيفته في الانقلاب علي إرادة الأمة الحرة"؟.. يا لحمرة الخجل. وأغرب مما سبق أن د.البر يعد انتفاضة الشعب في مظاهرات 30 يونيو السلمية انقلاباً، ولا يعد حمل السلاح علي جيشنا وشعبنا العظيمين من قِبل جماعته انقلاباً.. وأغرب من كل ذلك أن ينسب بالباطل هذا الخروج السلمي إلي الجيش وكأنه الذي دعا إليه وأن ما جري كان تمثيلاً أو مسرحية بين الجيش وشعبه.. إن مشكلة د.البر وجماعته أنهم لا يعيشون الواقع ويعدون الديمقراطية التي أوصلت د.مرسي إلي سدة الحكم والتي لا تؤمن بها جماعة الإخوان سوي مرة واحدة هي التي يصلون من خلالها إلي السلطة كما في تجربة (حماس).. يعدونها مجرد صندوق انتخابي يحرزون فيه غالبية الأصوات وانتهي الأمر عند هذا الحد، ناسياً أن للديمقراطية آليات لم يفعِّلها د. مرسي وأن غيره في دول العالم فُعل به مثل ذلك عندما أساء استغلال منصبه، وناسياً أن جل من انتخبوه هم من ثاروا عليه لسوء إدارته وتعجل جماعته وعمالتها لمن لا يود لنا الخير من قوي الشر والبغي، وناسياً كذلك أن د. مرسي هو الذي انقلب علي الشرعية الشعبية بعدم مراعاته مصالحها وحنثه لليمين التي أقسم عليها أكثر من مرة، وناسياً أيضاً أن د.مرسي نفسه هو الذي اعترف أن الشرعية للشعب يعطيها من يشاء ويمنعها عمن يشاء، وأنه القائل وبالحرف الواحد موجهاً خطابه لنفس الشعب الذي خرج عليه بعد أن انتخبه: "أنتم مصدر هذه الشرعية، تمنحوها لمن تشاءوا وتمنعوها عمن تشاءوا"، والقائل: "أنتم أهل السلطة ومصدرها، وأنتم الشرعية وأقوي مكان فيها، من يحتمي بغيركم يخسر ومن يسير مع إرادتكم ينجح، أنتم مصدر السلطة والشرعية التي تعلو علي الجميع"، والقائل في ميدان التحرير 29/ 6/ 2012: "أيها الشعب العظيم جئت إليكم وإلي كل أبناء الشعب المصري الكبير، لأني مؤمن تماماً بأنكم مصدر السلطة والشرعية التي لا تعلو عليها شرعية". وعليه فعندما يخرج معظم أبناء الشعب المصري الكبير علي حد قوله بعد أن فقد الأمل في الإصلاح ووجد الرئيس قد خان شعبه بإقصاء أبنائه وتكويش جماعته علي كل شيء وتغلغلها في مفاصل الدولة، وتولية الأهل والعشيرة من أهل الثقة علي حساب الكفاءات، وخالف الدستور ص 3، 6، 7 الذي أقسم عليه، وخالف الشرع المتمثل في قوله عليه السلام فيما رواه الحاكم وصححه: "من وُلي من أمر المسلمين شيئاً، فوَلي رجلاً وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين"، وفي رواية: "من قلد إنساناً عملاً علي عصابة وفي رعيته من هو أولي منه فقد خان الله ورسوله وجماعة المسلمين"، وفي أخري: "وهو يجد في تلك العصابة أرضي لله منه، فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين".. أقول عندما يحدث ذلك فإنك يا سيدي لا تستطيع أن تسمي هؤلاء خوارج، وإنما هم أبناء غالبية الشعب خرجوا ليطالبوا بحقهم المغتصب والمهضوم بعد أن فقد الرئيس شرعيته، وبخاصة أنهم لم يحملوا سلاحاً كما فعلتم، وأن تولية الرئيس كان بموجب عقد مشروط بما في الدستور الذي خالفه وليس بموجب عقد مطلق، وكل ما فعله الجيش أنه تدخل لحماية هذه الغالبية المسالمة خوفاً عليها من الأقلية التي تحمل السلاح وتستقوي بأمريكا وغيرها من دول الكفر.. والاولي بمسمي الخوارج يا سيدي هم من انقلبوا علي الديمقراطية ورفضوا الانصياع لحكم غالبية الشعب، هم من حملوا السلاح ضدهم، هم من يوالون علي الهوية، هم من (يقاتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان) كما فعلتم في مهادنة اليهود وحين رحتم تبحثون عن خصوم من المصريين تقتلونهم، هم من يكفرون المجتمع ويحملونه علي الفكر القطبي.. أعلمت سيدي أنك وعبدالمقصود والقرضاوي وكل جماعتك من هم الانقلابيون والأولي بمسمي الخوارج، ومن في رقابهم الدماء التي أسلتموها وحرضتم عليها، وأنك كنت تغالط نفسك وجماعتك عندما قلبت الحقائق وغيرت واقع الفتوي ولم تحقق مناطها ولم تنقحه.. بقلم أ.د.محمد عبدالعليم الدسوقي الأستاذ بجامعة الأزهر الشريف