المعارك السياسية التى تدور فى مصر.. لا أهمية لها إلا من ناحية واحدة هى، هل ينتصر التنوير أم نطفئ الأنوار ونعود إلى الظلام؟ وهذا كلام قد لا يعجب بعض الناس وربما أكثر الناس، لكن هذا الضباب والتخبط بل واللخبطة لا بد لنا من شىء نتمسك به وندافع عنه جميعا.. إنه التنوير.. والتنوير كما عرفه الفيلسوف «عمانويل كانت»، هو خروج الإنسان من قصوره الذى اقترفه فى حق نفسه لعدم استخدام العقل والركون إلى الخرافة. والتنوير كما نعرف، هو حركة فكرية ظهرت خلال مرحلة مهمة من تاريخ أوروبا الحديثة فى القرنين ال18 وال19، قام بها الفلاسفة والعلماء الذين نادوا بقوة العقل وقدرته على فهم العالم وإدراك قاموسه وقوانينه وحركته، اعتمد التنوير على التجربة العلمية والنتائج الملموسة بدلا من الاعتماد على الخرافة والخيال. ومن أهم أعلام التنوير فى بريطانيا «فرانسيس بيكون» المحامى الإنجليزى الذى اعتمد على منهج علمى يسير على أساس من التجربة، ويستبشر بيكون بعالم جديد لتحقق المستقبل عندما تصبح المعرفة مصدره والقوة التى تمكن الإنسان من السيطرة على الطبيعة، كذلك «إسحق نيوتن» عالم الرياضيات، الذى قال إن العالم يسير حسب مجموعة من القواعد الطبيعية تحكمها قوى عوامل الجاذبية.. وأنه إذا اعتمد الإنسان على نور العقل فى تفسير الظواهر الطبيعية وإدراك دوره فى عالم المجهول. وقد ظهرت حركة التنوير فى مصر فى عهد محمد على باشا والى مصرم «1765 – 1846»، عندما أرسل البعثات إلى أوروبا.. لقد بدأ هذا الألبانى الذى كان يجهل القراءة والكتابة مرحلة نهضة تعليمية وعسكرية وجغرافية.. وكان إمام أول بعثة أرسلت إلى فرنسا رفاعة الطهطاوى «1801 – 1873»، الذى عاد إلى مصر ليصبح مديرا للمدارس الفنية التى أنشأها محمد على، ثم مديرا لمدرسة «الألسن»، وألف كتابه الشهير «تخليص الأبريز فى تلخيص باريز». وتاريخ الطهطاوى معروف.. أريد أن أقول فقط إن حركة التنوير المصرية عمرها نحو 300 سنة.. فهل نشطب هذه السنوات من تاريخنا وننتظر ظهور رفاعة آخر؟ الواقع لا يسمح وعندنا ورثة رفاعة الطهطاوى.. ومن أبرزهم وأحبهم إلى قلبى الدكتور جابر عصفور.. وقبله كان الدكتور زكى نجيب محمود، والدكتور عاطف الواقى، والدكتور حمدى زقزوق، وغيرهم. وسبب تعلقى بهذا المثقف البارز يعود إلى عشرين عاما أو تزيد، عندما تناولنا العشاء معا، بدعوة من الراحل الكريم رجاء النقاش.. وتصادف أننا جلسنا متجاورين وتبادلنا الحديث، وارتحت على الفور لحديث الدكتور المثقف، خصوصا عندما تبادلنا الذكريات ووجدنا أن كلا منا له قصة حياة متشابهة إلى حد كبير.. وأنا كنت أكبر سنا.. لكن البدايات كانت فى عهد عبد الناصر العظيم.. وبفضل رسالة عادية أرسلها الدكتور عصفور إلى عبد الناصر، تغيّر مصيره من مدرس بالمدارس الإعدادية إلى معيد بالجامعة.. وهيَّأت الظروف المواتية للشاب جابر عصفور، وبجهده ونبوغه حصل على الماجستير عام 1969، ثم الدكتوراه عام 1973، ومضى نجمه يعلو، وحصل على عدة جوائز مصرية وعربية. وربما أهم من هذا كله أنه ألف خمسة كتب عن التنوير، هى «التنوير»، «بوابة الطريق»، «محنة التنوير»، «دفاعا عن التنوير»، و«هوامش على دفتر التنوير».. وقد صدرت جميعا فى عامين متتالين بداية التسعينيات.. ومعنى هذا أن الرجل جعل قضية التنوير هى قضية حياته ومشروعه الفكرى الوحيد.. وقد بدأ مؤخرا فى كتابة سلسلة من المقالات فى «الأهرام»، وصل إلى الحلقة الخامسة منها تحت عنوان «هل انتهى زمن التنوير».. وهو يقول فى حلقته الخامسة: «من المؤكد أن النموذج الغربى الرأسمالى الذى يصل ما بين أوروبا والولايات المتحدة، ظل هو الإطار المرجعى لفكر مفكرى ومبدعى ثورة 1919م. ابتداءً من أحمد لطفى السيد ومحمد حسنين هيكل وطه حسين والعقاد، وانتهاء بطلعت حرب وهدى شعراوى ومحمود مختار وسيد درويش. وقس على هؤلاء الجيل اللاحق الذى كان يحلم بوطن حر يحكمه دستور حديث وديمقراطية حقيقية. أعنى جيل توفيق الحكيم ويحيى حقى ومحمد مندور وسهير القلماوى وسيزا نبراوى ودرية شفيق إلى آخر القائمة الطويلة. وقد ظل حلم التقدم والقياس على الغرب المتفوق هو الغالب على هؤلاء، وعلى الوعى الوطنى، حكاما ومحكومين، رغم تعدد الأحزاب وتنافرها وتصارعها. وهو الأمر الذى حقق الريادة المصرية فى أغلب المجالات التى جعلت من مصر قائدة الوطن العربى ومعلمته وملهمته إلى كارثة العام السابع والستين. وقد تقاطعت الليبرالية التى آمن بها هؤلاء جميعا مع عدد من المذاهب والتيارات الجديدة التى تبدأ بتنويعات الاشتراكية وغيرها. وذلك فى صيغ فكرية لم تفارقها أنوار التنوير ومبادؤه الأساسية. وظلت قوة الدفاع القوية مسؤولة عن استمرار هذه الصيغ التى ظلت مؤثرة بتنويعات مختلفة. رغم قيام ثورة يوليو 1952 وما تربت عليها من إلغاء الأحزاب وإيثار نظام سياسى يقوم على الحزب الواحد التابع للحكم، الذى تغيرت أسماؤه مرات عديدة، لكن بقيت الصيغ الفكرية التى لا تفارقها مبادئ التنوير مستمرة بقوة الدفع الذاتى إلى أن توفى النحاس سنة 1965 قبل عامين من هزيمة 1967م التى كشفت عن الأسباب التى كانت وراء سقوط الدولة التسلطية للمشروع القومى، التى لم تعترف بالديمقراطية أو التعددية الحقيقية. فزرعت فى داخل بنيتها بذرة سقوطها المدوى الذى شهدناه مع الهزيمة الكبرى التى قلبت المشهد القومى كله رأسا على عقب، وفى انفجار لا تزال آثاره باقية». انتهى كلام الدكتور عصفور، وأظن أنه يائس من قدرة حركة التنوير على الاستمرار.. لكن لسبب أو لأسباب لا أدرى متفائلا، ربما لأننى متفائل بطبعى.. ولست أدرى من منا يكسب الرهان على المستقبل. نقلا عن جريدة التحرير