4 علاقة الإنسان.. بالله [... فلم ارَ مولىً كريماً اصبر على عبدٍ لئيم منك عليّ يا رب، انكَ، تدعوني فاولي عنك، وتتحببُ الي فاتبغضُ اليك، وتتوددُ اليّ فلا اقبلُ منك، كأن لي التطول عليك، فلم يمنعك ذلك من الرحمة بي، والاحسانِ اليّ والتفضل عليّ بجودك وكرمكَ، فارحم عبدك الجاهل، وجُد عليه بفضل احسانك انك جوادٌ كريم. الحمدُ لله مالك الملك، مجري الفلك، مسخر الرياح، فالق الاصباح، ديان الدين، رب العالمين. الحمدُ للهِ على حلمه بعدَ علمه، والحمدُ للهِ على عفوه بعد قدرته، والحمدُ لله على طول اناته في غضبه، وهو قادرٌ على ما يريد...] [... فلم ارَ مولىً كريماً اصبر على عبدٍ لئيم منك عليّ يا رب، انكَ، تدعوني فاولي عنك، وتتحببُ الي فاتبغضُ اليك، وتتوددُ اليّ فلا اقبلُ منك..] ان العلاقة بين الإنسان وربه، علاقة غريبة، فبينما الإنسان هو المحتاج والفقير، والمفروض ان يكون هو الذي يسعى نحو ربه ويفتش عن الوسائل التي تقربه اليه زلفى، نجد ان العكس هو الصحيح في اكثر الاحيان، اذ ان الله تعالى هو الذي يدعو الإنسان ويتحبب اليه، بينما الإنسان يرفض الاستجابة، ويبتعد عن الله استجابة لضغوط الاهواء، والشهوات، ومتع الحياة، وهذه الفقرة من دعاء (الافتتاح) تسلط الضوء على هذه المفارقة الغريبة في علاقة الإنسان بربه: [... فلم ارَ مولىً كريماً اصبر على عبدٍ لئيم منك عليّ يا رب] بالرغم من حاجة الإنسان اليه وعبوديته له، وبالرغم من لؤمه الذي يتجلى في ارتكاب الذنوب والاصرار على المعاصي، إلا ان الله يصبر عليه وعلى ذنوبه واخطائه، فلا يوجد اصبر من الله على عباده المذنبين، والدليل على ذلك هو: (انك تدعوني فاولي عنك)، فكم يحدث ان الله تعالى يدعونا للصلاة مثلاً عبر المؤذن الذي ينادي في اوقات الفرائض: حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على خير العمل، إلا اننا لا نستجيب، ونبقى مشغولين بالاعمال التافهة؟ فالله يدعونا ونحن نوليّ عنه. (وتتحبب الي فاتبغض اليك)، فالله يحبك ويريدك ان تحبه، يريد ان تكون بينك وبينه علاقة حب متبادلة، ورب العزة بيده كل شيء، وهو يتفضل عليك بالنعم المتواترة حتى تحبه، ويريدك ان تخضع له وتعبده، وتطيع تعاليمه حتى يحبك، إلا انك ترفض ذلك عمليا: (وتتحبب الي فاتبغض اليك)، فكلما يهدي الله الينا هدايا طيبة حتى نحبه، نحن نعكس الامر ونرسل له بذنوبنا، وفي دعاء ابي حمزة الثمالي: [ولم يزل ولا يزال ملك كريم يأتيك عنا بعمل قبيح] (وتتودد الي فلا أقبل مننك)، يرسل الله للإنسان رسالة الحب والود، إلا ان الإنسان لا يقبل بذلك ويردها دون ان يفتح الرسالة، والقرآن هو رسالة الله للإنسان، فكم نحن نقرأ القرآن؟ واذا قرأنا القرآن في شهر رمضان المبارك كعادة موروثة، فهل نتدبر في آياته، ام ان كل اهتمامنا ينصب على كمية الآيات والسور التي نقرأها في كل يوم؟ [كأن لي التطول عليك، فلم يمنعك ذلك من الرحمة بي، والاحسانِ اليّ والتفضل عليّ بجودك وكرمكَ، فارحم عبدك الجاهل، وجُد عليه بفضل احسانك انك جوادٌ كريم..] (فأرحم عبدك الجاهل، وجد عليه بفضل احسانك، انك جواد كريم..) هذا الإنسان العاجز الضعيف الذي لا يستطيع ان يواصل الحياة لحظة واحدة من دون نعم الله، وألطافه، ومن دون حب الله ووده، يرفض تحبب الله وتودده، وكأن له اليد العليا على خالق الكون، وله الفضل والطول عليه: (كأن لي التطول عليك) إلا ان هذا النوع من العلاقة السلبية التي يقيمها الإنسان بينه وبين ربه لا يمنع الله من مواصلة الرحمة والنعمة للإنسان: (فلم يمنعك ذلك من الرحمة بي والاحسان الي، والتفضل علي بجودك وكرمك). وفي دعاء ابي حمزة الثمالي ايضاً نقرأ مثل هذه الفقرات: [الحمد لله الذي أدعوه فيجيبني وان كنت بطيئاً حين يدعوني، والحمد لله الذي أسأله فيعطيني، وان كنت بخيلاً حين يستقرضني.. الحمد لله الذي لا أدعو غيره ولو دعوت غيره لم يستجب لي دعائي، والحمد لله الذي لا أرجو غيره ولو رجوت غيره لأخلف رجائي.. فربي احمد شيء عندي واحق بحمدي] وهكذا تحكم بني آدم هذه المفارقة: كلما غمره الله بلطفه ورحمته كلما رد الإنسان بالذنب والجفاء، والإنسان انما يرتكب الذنب تحت ضغط الشهوات، ووقوع الإنسان في الخطأ هو امر طبيعي، والله تعالى يغفر له ذلك. اما الجفاء فهو أسوأ من الذنب بكثير، وهو يعني ان لا يسأل الإنسان ربه، ولا يدعوه في شيء، ولا يستغفره من ذنوبه، واذا جافى الإنسان ربه وقاطعه، فالى من يلجأ؟ وهل هناك غير الله نلتمس منه حوائجنا، ونلجأ اليه في الرخاء والشدة؟ نحن نحيا بلطف الله ورحمته، ونعيش على ارضه وتحت سمائه، وبيده كل حركاتنا وسكناتنا، فكيف اذن نقاطعه ونجافيه؟ {روي أن الحسين (ع) جاءه رجل وقال: أنا رجل عاصٍ، ولا أصبر على المعصية، فعظني بموعظة، فقال (ع): أفعل خمسة أشياء واذنب ما شئت. فأول ذلك: لا تأكل رزق الله وأذنب ما شئت، والثاني أخرج من ولاية الله واذنب ما شئت، والثالث: اطلب موضعاً لا يراك الله واذنب ما شئت، والرابع: إذا جاء ملك الموت ليقبض روحك فادفعه عن نفسك واذنب ما شئت، والخامس: إذا أدخلتك مالك في النار فلا تدخل في النار واذنب ما شئت}(1) [فأرحم عبدك الجاهل، وجد عليه بفضل احسانك انك جواد كريم] وهكذا يتضرع الإنسان الى ربه طالباً رحمته، ومعترفاً بجهله، وحاجته الملحة الى فضل الله واحسانه، وبهذا التضرع ينتهي القسم الاول من دعاء الافتتاح، وكما قلنا سابقاً ان الادعية المأثورة تبدأ عادة بحمد الله وتنزيهه وتسبيحه، ثم بعد ذلك يأتي دور التضرع لله وطلب الحاجة منه، لذلك فان القسم الاول من دعاء الافتتاح إبتدأ بالحمد والثناء والتسبيح ثم انتقل الى الطلب والتضرع، وهكذا ايضاً يبتدأ القسم الثاني برحلة جديدة في الحمد والتسبيح والتنزيه، ثم ينتقل بعدئذ الى الطلب، وفي هذا القسم يبدأ الطلب بالصلاة على النبي محمد (ص) ثم الصلاة على الائمة المعصومين (ع) وفي نهاية الدعاء نجد مجموعة من الطلبات الاستراتيجية الهامة التي تتعلق بمصير الإنسان في الحياة، وبواقعه السياسي وبقضايا المواجهة مع اعداء الامة الإسلامية. [الحمد لله مالكِ الملك، مجري الفلك، مسخرِ الرياح، فالق الاصباح، ديان الدين، رب العالمين] ربما يكون هنالك فرق بين معرفة الله، وبين مجرد الايمان بالله، فحالة (المعرفة) هي حالة متقدمة عن الايمان، اذ ان (المعرفة) هي الرؤية القلبية المباشرة، وحالة المعرفة والعرفان هي حالة الاتصال الغيبي بين قلب الإنسان وبين رب الإنسان، فكيف تحصل حالة العرفان هذه؟ ان من وسائل الوصول الى حالة العرفان هو الايمان التفصيلي، أو تفصيلات الايمان، فنحن بصورة مجملة مؤمنون بان هذا الكون الواسع قد خلقه الله سبحانه وتعالى وانه هو الذي يدبر اموره، هذا هو الايمان، اما اذا اراد الإنسان ان يصل الى (معرفة الله) والى اتصال قلبه بالله والى درجة اليقين، فان عليه ان يفصِّل هذا الايمان المجمل، وان يتوجه الى كل جزء من مخلوقات الله في الكون ويتدبر في خلقه وصنعه، فيتدبر في خلق الله لهذا الكون، وهذه الشجرة، وهذا البستان، وهذه الشمس، وهذا القمر، وهذه النجمة، وهذه الكرة، وهكذا.. حتى ينبعث في قلب الإنسان نور اليقين، وتغمره حالة المعرفة، ويصل الى ما وصل اليه الإمام علي (ع) الذي يقول حسب ما روي عنه: [ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله ومعه وبعده] فكل شيء يراه الإنسان يتجلى فيه اسم من اسماء الله سبحانه وتعالى فحينما يرى الشجرة لا يفكر في ثمرتها وقيمتها فقط، بل يفكر ايضاً في اتقان الصنع وابداع الخلق وجمال الصورة ونظام الحياة، ومن خلال اتقان الصنع يصل الإنسان الى اسم الله البديع المدبر، ومن خلال قوة ومتانة الصنع يقول: سبحان الله القوي القدير، ومن خلال تفاعل الشجرة مع الكون، يقول سبحان الله مدبر الامور، المقدر الحكيم. فاذن كل شيء يهدي الأنسان العارف الى اسم من اسماء الله، واذا عرف الإنسان ربه عبر اسمائه الحسنى سبحانه، فانه يزداد تألقاً في سماء الايمان كلما عرف اسماً جديداً من اسماء الله عزوجل، ويرتقي درجة جديدة من درجات اليقين. من هنا نجد ان القسم الثاني من (دعاء الافتتاح) يبدأ بحمد الله وثنائه مشيراً الى تفاصيل الابداع والاتقان في الخلق، في محاولة لدفع الإنسان المؤمن الى المزيد من التدبر والتفكر في صنع الله ليكسب المزيد من اليقين والمعرفة: (الحمد لله مالك الملك) فالملك كله لله: (مجري الفلك) ان كل شيء في هذا الكون يجري ويدور، فالارض تدور حول نفسها وتدور حول الشمس، والشمس بذاتها تدور وتتحرك والكرات كلها في حالة دوران مستمر فمن الذي يجريها ويحركها؟ هو الله سباحنه وتعالى! هذا هو احد المعاني لجريان الفلك، اما المعنى الآخر فهو: السفينة، فالله تعالى هو الذي يجريها وسط البحار المتلاطمة بواسطة القوانين الطبيعية التي وضعها رب العالمين: (مسخر الرياح) اننا نعرف بان حركة الرياح انما هي بسبب تحولات تحدث في الشمس، فالرياح تحدث في الارض اذا حدث انفجار ما في عمق الشمس، ولكن الامر هو ابعد وادق من ذلك، فالرياح تتحرك بانتظام دقيق، وهي التي تدير الكثير من شؤون الكون، والرياح مثل رسل الله سبحانه وتعالى، تلقح الاشجار وتكشف السحب وتغير الهواء وتجري السفن في اعالي البحار ومئات العمليات الأخرى التي تقوم بها الرياح، فمن الذي ينظمها ويهديها ويحركها غير الله سبحانه وتعالى؟ وبعض الرياح تكون رياح عذاب حينما تهب على القرية المذنبة وتبيدها عن آخرها، بينما القرية القريبة منها تكون بعيدة عن تأثيرات الرياح، ان الرياح لا تعقل شيئاً، فمن الذي يوجهها، ويحركها حسب مصلحة معينة غير الله تعالى؟ (فالق الاصباح) وهو الذي فلق الصبح وجعله ينفجر من ضمير الظلام الدامس لتتنفس الحياة، وتدور عجلة البشرية في نشاط دائب، (ديان الدين رب العالمين) والله هو الذي يعطي جزاء الناس ويحاسبهم على كل صغيرة وكبيرة، لانه رب العالمين. [الحمد لله على حلمه بعد علمه، والحمد لله على عفوه بعد قدرته، والحمد لله على طول انانه في غضبه وهو قادر على ما يريد..] في هذه الفقرة من الدعاء نجد مظاهر أخرى من المفارقة السابقة التي ذكرناها في علاقة الإنسان بربه، فالله تعالى يحلم عن الإنسان المذنب العاصي بالرغم من علمه بكل ذلك، فانت قد تغتاب شخصاً لا يسمعك، ولكن الله يراك ويسمعك، وما من ذنب يرتكبه الإنسان إلا ويراقبه الله ويراه، جاء في حديث شريف ان ابراهيم النبي عليه الصلاة والسلام اراه الله ملكوت السموات والارض وكشف عن بصره الغطاء، فرأى كل ما يدور من احداث: رأى رجلاً يزني بامرأة في مكان ما، وآخر يسرق من بيت ما، وثالث يعتدي على صاحبه ويقتله، وهكذا مجموعة كبيرة من الذنوب والمعاصي، وكان النبي يرى كل ذلك ويملأه العجب، وهو نبي معصوم ويخشى الله سبحانه وتعالى، ويعرف الله حق معرفته. عن رسول الله (ص) قال: {إن ابراهيم الخليل لما رفع في الملكوت، وذلك قول ربي* وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين* قوى الله بصره لما رفعه دون السماء حتى أبصر الأرض ومن عليها ظاهرين ومستترين، فرأى رجلاً وأمرأة على فاحشة، فدعا عليهما بالهلاك فهلكا، ثم رأى آخرين فدعا عليهما بالهلاك فهلكا، ثم رأى آخرين فدعا عليهما فهلكا، ثم رأى آخرين فهم بالدعاء عليهما بالهلاك، فأوحى الله اليه: يا إبراهيم إكفف دعوتك عن عبادي وإمائي فاني انا الغفور الرحيم، الجبار الحليم، لا تضرني ذنوب عبادي كما لا تنفعني طاعتهم، ولست اسوسهم بشفاء الغيظ كسياستك، فاكفف دعوتك عن عبادي فانما انت عبد نذير، لا شريك في المملكة، ولا مهيمن عليّ ولا على عبادي، وعبادي معي بين خلال ثلاث: اما تابوا اليّ فتبت عليهم وغفرت ذنوبهم، وسترت عيوبهم، واما كففت عنهم عذابي لعلمي بانه سيخرج من اصلابهم ذريات مؤمنون، فارفق بالآباء الكافرين، وأتأنى بالامهات الكافرات، وارفع عنهم عذابي ليخرج ذلك المؤمن من اصلابهم، فاذا تزايلوا حق بهم عذابي، وحاق بهم بلائي، وان لم يكن هذا ولا هذا فان الذي اعددته لهم من عذابي اعظم مما تريدهم به، فان عذابي لعبادي علي حسب جلالي وكبريائي.. يا ابراهيم فخلّ بيني وبين عبادي فاني ارحم بهم منك، وخلّ بيني وبين عبادي فاني أنا الجبار الحليم، العلام الحكيم، ادبرهم بعلمي، وأنفذ فيهم قضائي وقدري}1 وهكذا نجد ان الله تعالى يحلم عن عباده بعد علمه بكل معاصيهم، وهو قادر على ان ياخذهم إلا انه يعفو عنهم (الحمد لله على عفوه بعد قدرته)، وكذلك يصبر الله طويلاً على عبده ولا ينزل عليه غضبه، فقد يمهل الله انساناً عشرات السنين وهو سادر في الذنوب والمعاصي لعله يهتدي في النهاية ويعود إلى رشده (والحمد لله على طول أناته في غضبه) كل ذلك (وهو قادر على ما يريد) ولان الله يعفو، ويحلم ويصبر على المذنبين بالرغم من قدرته وجبروته، كان العفو، والحلم، والصبر من اسمائه الحسنى. نقل عن اية الله العظمى